مثل كل نظام دموي، استهلّ العقيد الليبي معمر القذافي فترة حكمه بتصفية عدد كبير من الضباط البعثيين والناصريين الحقيقيين الذين ساهموا معه بجهد كبير في الثورة لإطاحة نظام إدريس السنونسي. كذلك كان يُعرف عن العقيد منذ تولّيه السلطة شكّه وريبته في كل من يحاول أن يبدي رأياً مخالفاً له، والعمل على تصفيته مهما كانت درجة الإخلاص والوفاء التي يتمتّع بها. وعلى هذا الأساس كانت بداية جرائمه في ليبيا بتصفية رفاق السلاح، أو مَن عُرف باسم «مجلس قيادة الثورة» و«أعضاء تنظيم الضبّاط الأحرار».كان أول ضحاياه المقدم آدم الحواز والمقدم موسى أحمد، اللذان اختلفا معه في الرأي. ورغم أنهما كانا أعلى رتبة منه، إلا أن القذافي تآمر عليهما واستبعدهما عن مجلس قيادة الثورة واتهمهما بالقيام بمحاولة انقلابية وحاكمهما بالسجن المؤبد، ليلقى الحواز حتفه في السجن، ويطلق سراح موسى أحمد بعد أكثر من عشرين عاماً.
بعد ذلك بأشهر، كانت جريمة اغتيال وزير الإسكان، النقيب أمحمد المقريف. المفارقة أن التصفية جاءت مفضوحة، فرغم حادث السير الذي تعرّض له مع عضو مجلس قيادة الثورة عبد السلام جلّود، ظهر في المستشفى مربوط اليدين ومعصوب الوجه والرأس والقدمين بالضمادات، ليغادره قتيلاً مصاباً بأكثر من أربعين كسراً في جسمه. وأشار مراقبون إلى أن الاغتيال جاء لسببين، الأول هو أن المقريف لم يكن يخفي معارضته للقذافي، والثاني أنه كان، في ذلك الحين، من معارضي الاندماج مع مصر.
ومع المرحلة الثانية من عمر نظامه، أي من نيسان 1973 إلى آذار 1977، بدأ القذافي في تجسيد القيادة الفردية، ما جعل بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة يعتقدون أنهم قد خُدعوا، وأخذوا يفكرون جدياً بالخلاص منه. ففي صيف عام 1976، قام ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة هم عمر المحيشي، بشير هوادي، عوض حمزة، مع مجموعة من الضباط الأحرار، بمحاولة انقلاب على القذافي. إلا أن أمرهم كُشف قبل تحركهم، وألقي القبض على غالبيتهم، وهرب المحيشي إلى تونس ثم مصر، وبعدها المغرب.
لم يستسلم القذافي إلى فكرة هرب المحيشي، فدخل بمفاوضات طويلة مع ملك المغرب الحسن الثاني، أثمرت تسليم المحيشي إلى ليبيا، حيث قتله القذافي بعدما هبطت به الطائرة المغربية في «سرت»، وأشيع حينها أن الطائرة قد هبطت به في المملكة العربية السعودية لأداء العمرة. ووجد القذافي في المحاولة الانقلابية فرصة سانحة للتخلص من الضباط الذين لا يثق بهم ولديه شك في ولائهم له بعد محاكمتهم أمام محاكم عسكرية صورية.
مرحلة جديدة من البطش الليبي بدأت بعد الغارة الأميركية على ليبيا في نيسان 1986. مرحلة تميّزت بتزايد جرائم اللجان الثورية، التي سيطرت على كل شيء في ليبيا، واكتنفت تلك الفترة تدخّلات القذافي العسكرية الفاشلة في أوغندا وتشاد، وتآمره على جيرانه العرب في مصر وتونس والسودان. كذلك تخلص من كثير من أعوانه مدنيين وعسكريين، بإرسالهم إلى معسكرات الموت وحروبه في أوغندا وتشاد، ليلقوا حتفهم.
وتخلّص القذافي من باقي أعضاء مجلس القيادة، عبر إنهاء أدوارهم، وعلى رأسهم الرائد عبد السلام جلود، ليبقي على ثلاثة أعضاء فقط، هم أبو بكر يونس والخويلدي الحميدي ومصطفى الحزوبي الذين جردهم من كل صلاحياتهم باستثناء تلك المالية، ليبقي لهم المستوى الترَفي الذي يعيشون فيه هم وأقاربهم وذووهم.
وخلال عقد التسعينيات، صُفّي عدد من أعمدة نظام القذافي، هم أمين العدل إبراهيم بكار الذي قتل في حادث سيارة، حين كان آتياً من تونس، وإبراهيم البشاري الذي شغل منصب المسؤول الأول عن الأمن الخارجي في الثمانينيات، ثم أصبح أميناً للخارجية، ثم رئيس قلم القائد. وخلال تلك المرحلة، أشرف البشاري على تصفية العديد من الليبيين المعارضين في الخارج، وعلى خطف وزير الخارجية الأسبق المعارض منصور الكيخيا في القاهرة في عام 1993 وتصفيته.
جرائم القذافي لم تقف عند حدود «رفاق السلاح» أو المعارضين السياسيين، بل امتدّت لتطال غيرهم من أبناء ليبيا، وحتى الأجانب الذين يعيشون على أراضيها. ففي سنة 1973 كان الشعار المرفوع آنذاك هو تأميم النفط، وحصلت العملية عبر إقصاء عدد كبير من الشركات النفطية العالمية، وخصوصاً الشركات الأميركية، يُضاف إليها ما حصل من انتهاكات لحقوق الآلاف من العمال الإيطاليين والفرنسيين والأجانب الذين كانوا يقطنون في طرابلس والبيضاء وبنغازي وسبها والكفرة، والذين كانوا يكوّنون خليطاً متجانساً يضفي على النسيج المجتمعي الليبي رونقاً خاصاً وميزة متفرّدة.
أما في سنة 1976، فقد كانت الثورة الطلابية، أو ما يسمى رسمياً إعلان سلطة الشعب، حيث عمدت اللجان الثورية مدعومة من الطلاب الموالين للعقيد القذافي إلى حملة تطهيرية على كل الطلاب والجامعيين المختلفين معهم في الرأي، وخصوصاً طلبة الإخوان المسلمين، ونُصبت لهم المشانق في الحرم الجامعي، وأعدم المئات من الطلاب الأبرياء وشُرّدت عائلاتهم وزُجّ بذويهم في السجون والمعتقلات.
وفي سنة 1978، كانت الحملة الشرسة على التونسيين المقيمين في ليبيا، حيث عمد النظام الليبي، في ذروة خلافه مع نظام بورقيبة، إلى إجراء ترانسفير للجالية التونسية هناك، البالغ عددها حينها أكثر من خمس وعشرين ألف نسمة. ووصلت حدّة المعركة بينه وبين الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة الى ذروتها في 1980، حين أرسل كوماندوس بقيادة عز الدين الشريف وأحمد المرغني، للاستيلاء على مدينة قفصة واغتيال بورقيبة الذي كان يقيم في نفطة. وأدّت المعارك إلى انكسار المجموعة القادمة من ليبيا واعتقال أغلب أفرادها وقتلهم.
في السنة نفسها، أي في 1980، شنّت الاستخبارات الليبية مدعومة بحركة اللجان الثورية، حملة شرسة على جماعات حزب التحرير الإسلامي التي كانت تنشط في العديد من المدن الليبية، وأدّت الحملة إلى القضاء شبه التام على هذه المجموعات والزجّ بالآلاف من أنصارها في السجون والمعتقلات، إضافة الى قتل المئات من قادتها الميدانيين.
ولم تكد تنتهي السنة حتى كان العقيد القذافي قد زجّ بالجيش الليبي، الذي لم يكن مستعداً حينها، في حرب مجانية ضدّ جارته الجنوبية التشاد، مدّعياً امتلاكه لشريط أوزو الفاصل بين الصحراء الكبرى ومنطقة فزان الليبية، وهي حرب استنزفت الجيش الليبي وأرهقت ميزانية الدولة، لكنها لم تؤدّ إلّا إلى هزيمة نكراء تكبدتها الجماهيرية أمام الجيش التشادي الذي يقلّ عنها عدداً وعدّة وينقصها خبرة وتسليحاً.
لم يقف العقيد القذافي عند حدود الجماهيرية، بل توسّعت تدخلاته لتشمل أفريقيا الوسطى وأوغندا ومالي والسودان والنيجر، إضافة إلى تدخّله المباشر في الصراع الفلسطيني الداخلي.
والعالم كله يتذكّر وقفته الشهيرة إلى جانب المنشقّين عن حركة «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومساهمته المتميّزة في إخراج ياسر عرفات وقوات الثورة الفلسطينية من آخر معاقلهم في طرابلس لبنان.
كذلك ساند القذافي الجيش الجمهوري الايرلندي، وخصّص له معسكراً في الكفرة، ووفّر له الإمكانات المالية واللوجستية لإنجاز تدريباته.. لكنه قدّمه على طبق من ذهب للحكومة البريطانية عام 2005 من دون حتى أن تطلب منه ذلك.
أما أشهر المجازر في داخل ليبيا فتبقى بلا شكّ مجزرة سجن بوسليم. ففي 29 حزيران 1996 دهمت قوات خاصة سجن «بو سليم»، وفتحت نيران أسلحة متوسطة وخفيفة على السجناء العزّل وقتلت أكثر من ألف ومئتي سجين. نفّذت هذه المجزرة الرهيبة بناءً على تعليمات مباشرة من العقيد معمر القذافي وبقيادة شخصيات من كبار المساعدين الشخصيين للعقيد، من أمثال عبد الله السنوسي وعز الدين الهنشيري.
ودفنت أجهزة حكم القذافي القتلى في مواقع مجهولة، ولم تُخطر أهاليهم، واتخذت إجراءات صارمة للتّستّر على الجريمة وإنكار حدوثها، إلى أن اضطرت في الأعوام الأولى من القرن الجاري، أي بعد أكثر من ست سنوات، إلى الشروع في إخطار بعض الأسر بوفاة ذويهم في السجن. واستمرت أجهزة الحكم في إخطار الأسر على دفعات موزعة على مدى السنوات الست الماضية، وهو ما زاد من معاناة الأسر التي باتت تنتظر معرفة مصير ذويها.
وإلى اليوم، لا تزال مصائر أكثر من ألف ومئة سجين غير معروفة، وإن كانت كل المعلومات تؤكد أنهم في عداد القتلى. كذلك خلت البلاغات التي قدّمت للأسر من أي معلومات عن تاريخ الوفاة وأسبابها ومكان الدفن، علماً أن السلطات لم تُسلّم أياً من جثث القتلى.
وآخر مجازر القذافي، قبل بداية الإبادة الجماعية الحالية، كانت في عام 2006، حين عمدت الشرطة الليبية المكلفة بحراسة القنصلية الإيطالية في بنغازي الى إطلاق النار عشوائياً على متظاهرين أمام القنصلية، ما أدّى الى مقتل 14 شخصاً وإصابة نحو 200 بجروح، وهي القشة التي قصمت ظهر البعير والتي كانت ذكراها دافعاً لقيام الثورة الحالية في ليبيا.