رام الله | يُقال «إن السير في المسالك والدروب يرافقه سيرٌ في الذاكرة». تستجلب العبارة تساؤلاً عن الذاكرة التي سيسير فيها الفلسطيني وهو يمضي في تلابيب شبكة الطرق الجديدة، التي تتعهدها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية «USAID» في الضفة الغربية ضمن مشروع لإعادة تشكيل الفضاء الفلسطيني مستجيباً لحاجات إسرائيل الأمنية قبل كل شيء، ومحولاً الفلسطينيين إلى سكان غير مرئيين في أعين المستعمِر، ومفرّغاً الوجود الفلسطيني بمقوماته المادية والمعنوية، ومستهدفاً مع كل ذلك ما بقي من ذاكرة متصلة بما بقي من مكان وطن.
بعيداً كل البعد عن شبكة الطرق التقليدية الموجودة قبل الانتداب البريطاني ومعه، وبعيداً عن الطرق الاستيطانية الالتفافية التي تبتلع نحو 2 في المئة من مساحة الضفة، هناك في الوديان والجبال، تشق الوكالة الأميركية للتنمية شبكة طرق بديلة ستتحول إلى شبكة رئيسية ليسلكها الفلسطيني في تنقله عبر الضفة. شبكة الطرق هذه ستجعل الفلسطيني غير مرئي بالنسبة إلى المستعمر الصهيوني؛ فلا يعكر صفو المجال البصري للمستوطنين، وستعزّز الفصل العنصري بأكفأ صوره.
في البداية، سوّق رئيس الحكومة سلام فياض لهذه الشبكة على أنها جزء من خطته لإقامة الدولة، وفاخر باختراق الطرق لمناطق «ب» و«ج» التي تشكل 80 في المئة من الضفة الغربية، على اعتبار أنها مشاريع فلسطينية. لكن مديرة مركز «بديل» في بيت لحم، أينجريد جرادات غاسنر، ردّت عليه قائلة «من المحزن أن السلطة الفلسطينية تساعد في بناء معازلها».
وفي جملة ما يُثار حول تشكيل الاستعمار الصهيوني للحيز المكاني الفلسطيني عبر شبكات الطرق الجديدة والجدران والمعازل واستهدافه بتمويل غربي، أميركي بالدرجة الأولى، وتواطؤ من السلطة الفلسطينية، يجري التطرق لمخططات الطرق والشوارع وحركة الفلسطينيين عبرها، من خلال مقولات الفصل العنصري وإدارة السكان بعد الفشل في طردهم، ومحوهم من المشهد المكاني بما ينسجم مع الخيال الاستعماري. وتُستحضر في هذا الاطار بحوث في الآثار الاقتصادية والسياسية والأمنية المترتبة على هذا التشكيل، أو بحث في أثر هذه المشاريع الاستعمارية على الحياة اليومية للفلسطيني وعلاقتها بالزمن المشكّل بإرادة المستعمَر؛ ليتضح اليوم بنحو خاص وقع كل ما يجري على الذاكرة المسكونة في الدروب والجغرافيا.
والذاكرة هنا هي حصيلة خبرات وشعور وخيالات ورمزيات تتكاثف وتستقرّ بفعل التنقّل والتجوال والسير في الحيّز المكاني المعرّف لفلسطين ــ الأرض ــ الوطن؛ تلك التي استُهدفت طوال سنوات الإغلاق والحرب عبر حرمان الفلسطيني من التجوال في أرضه، لتشكل فجوة في الذاكرة المرتبطة بالمكان، وقطيعة بين الفلسطيني الساكن أي مدينة في الضفة وكل ما يقع خارجها؛ فتتآكل بذلك الذاكرة بفعل السنوات حتى تصبح محليّة ضيقة، ويُجهز على ما تبقى منها حين يضطر الفلسطيني إلى عبور طريق شقّتها «USAID» حتى يصل الى مدينة أخرى، فلا يبقى من الجغرافيا العالقة بالذاكرة، والذاكرة العالقة بالجغرافيا إلا شذرات تتلاشى مع الوقت.
وضمن هذا المسار ينظر كثير من الفلسطينيين بحنين طافح إلى ما قبل توقيع اتفاقية «أوسلو»، حين كانت حيفا ويافا على مرمى حجر، وكان الاحتلال يوحّد الفلسطينيين في الضفة وغزة والقدس والأرض المحتلة سنة 1948. وكان التجوال والتنقل يُبقي الذاكرة حيّة حافلة بتفاصيل نضال الفلسطينيين، أما اليوم فمن الطبيعي جداً أن تجد في الكثيرين في رام الله وقد زاروا العديد من العواصم الأوروبية، ولم تطأ أقدامهم يوماً مدينة الخليل الواقعة على بعد 50 كيلو متراً فقط.
المتجول في الضفة اليوم يرى عودة المستوطنين إلى الظهور راجلين في الطرق الالتفافية، ويشاركهم الفلسطينيون الطرق، ويتضح حجم الاستقرار الأمني النسبي؛ ففي حالات كثيرة ينتشرون من دون حراسة ولا يلتزمون بالوقوف خلف السواتر الحجرية الموجودة عند كل موقف خشية دهسهم من فلسطينيين. ومن الواضح أن هذه الحال لن تدوم، لأن أي توتر أمني سيضع كل هؤلاء في قلب الخطر، وهذا ما يشي بأن التشارك في هذه الطرق الالتفافية مؤقت ولن يدوم على حاله، لذلك فإن الطرق الأميركية قدر محتوم.
مشروع شبكة الطرق هذا هو جزء من تطبيق خطة «خريطة الطريق لسلام الشرق الأوسط» التي دعا إليها جورج بوش الابن، وتحديداً الجانب المشدّد على «التواصل الجغرافي» في أي حديث عن الدولة الفلسطينية. الطرق البديلة هذه وشبكة الأنفاق المخصصة للفلسطينيين (تتجاوز 48 نفقاً و34 حاجزاً ونقطة عبور) هي ضمانة للتواصل الجغرافي المريح لإسرائيل والمستوطنين، إلا أنّ الكفاءة في تطبيق المخططات لدى الوكالة الأميركية كفيلة بجعل السير في الضفة الغربية بمساحتها التي لا تتجاوز حوالي 5860 كيلومتراً مربعاً منفصلاً عن أي ذاكرة فلسطينية جماعية.
وبدعوى خلق التواصل الجغرافي في الكيان الفلسطيني الموعود وضعت منظمة «RAND» الأميركية الشهيرة مخططاً في 2007 لإنشاء قطار سريع يربط التجمعات الفلسطينية الحضرية الأهم من رفح حتى جنين على شكل قوس «THE ARC»، وهذا المشروع كما روّج له القائمون عليه يؤسس نموذجا جديداً للسلام.
وإلى جانب التواصل الجغرافي، تولّد تجربة التنقل في القطار السريع (90 دقيقة بين محطته الأولى والأخيرة) شعوراً بأنّ المسافر في فلسطين. وعلى جانبي مسار القطار تُبنى التجمعات الحضرية الفلسطينية الجديدة، والتركيز هنا على الشعور بـ«دولة فلسطينية» كما يروّج لها، بعيداً عن «فلسطين» كما يعرفها الفلسطينيون. وبصرف النظر عن تطبيق المشروع أو تأجيله، فإنه يعبر بشكل صارخ عن طبيعة التصور الأميركي للمكان الفلسطيني والسعي المستمر إلى فرض هذا التصوّر.
ومن هنا يمكن النظر إلى أن التنوع الظاهري في المشاريع الأميركية المنفذة أو المعلن عنها من دون تنفيذ، محكوم بذات الخطوط الحمراء للتصور الأشمل للوجود الفلسطيني في الضفة الغربية: إسرائيل وأمنها قبل كل شيء، والطابع الاستهلاكي يسم كل المشاريع حتى إنشاء الطرق؛ اذ إنها تحتاج إلى تجديد كل خمس سنوات، بمعنى آخر، فإن تنمية حقيقة مستدامة هي خارج أهداف وكالات التنمية الغربية الناشطة في الضفة، والوصول إلى بنية تحتية تكفي الفلسطينيين غير واردة أبداً. اضافة الى ذلك، فان الذاكرة الفلسطينية والوعي الجمعيّ هدف ثابت لمشروع التشويه المتواصل.
ولذلك يبدو التركيز على الذاكرة بكل مكوّناتها محورياً في ظل جهد دؤوب لخلق ذاكرة جديدة للفلسطينيين في الضفة، تستند إلى خيال وشعور تتعهد الاشتغال عليه السلطة والممولون؛ ففلسطين تُختزل بمناطق السلطة من خلال المناهج المدرسية واللغة الرسمية. وتجهز السلطة أيضاً، بأموال الممولين الغربيين، على ما تبقى من مقارّ الإدارة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي والاستعمار البريطاني لتبني مكانها مقارها الأمنية الخاصة باستهتار عال بكل ما مثلته هذه المواقع ورمزيتها في وعي الفلسطينيين. وتعرّف السيادة لدى السلطة على أنها ضبط الأمن داخل المدن ومنع القيام بأي عمل عسكري ضدّ الاحتلال، أما اعتداءات الاحتلال والمستوطنين على الفلسطينيين فلا يشكل مساساً بالسيادة، وتتوسع الوزارات والأجهزة الأمنية ويجري الحديث عن الدولة وكأنها قائمة والاحتلال غير موجود، وفي هذا الإطار تسوّق الطرق الجديدة على أنها الطرق الفلسطينية، وهي خاوية وتصلح لتشكيل ذاكرة متصالحة مع مشروع السلطة.
يتملك السائر على دروب «USAID» بين جنين ونابلس في شمال الضفة أسئلة عديدة عن كل هذا الابتعاد المقصود عن التواصل الحضري والقرى والبلدات، وعن الاختلاف الهائل في التصميم بين طرقات المستوطنات بالغة الاستقامة والشبيهة بالطرقات السريعة الواسعة الرحبة (وهذه موّل الأميركيون 22 في المئة منها)، والطرق الجديدة المخصصة للفلسطينيين بتعرجها والتوائها الغريب في الوديان وسفوح الجبال، وضيقها المبالغ فيه في بعض المناطق. تساؤلات حول جدية الحديث عن كونها الطرق الرئيسة في الدولة العتيدة الموعودة، فضلاً عن الاستنتاج البديهي بأنها طرق غير مؤهلة بتاتا للنقل التجاري والقيام بأي دور اقتصادي، وهذا ما تدركه إسرائيل جيداً؛ فالاقتصاد الفلسطيني، إن وجد، لا بد أن يتوقف عند كل حاجز عسكري ويرتهن للتصاريح العديدة.
خلال سنوات الانتفاضة استقر لدى الفلسطينيين في الضفة، كجزء من السلوك اليومي، سؤال الزائر من أي منطقة خارج القرية أو المدينة، عن حال الطرق بعبارات من قبيل «في إشي ع الطريق؟» أو «كيف الطريق؟»، في إشارة إلى الأحوال المضطربة والإغلاقات والحواجز التي تملأ المسالك والدروب وتهدد كل العابرين. اليوم يمكن الإجابة عن هذا التساؤل الشهير بالقول: «إن الطرقات «الأميركية» في الضفة مقفرة؛ لم يسقط عليها الشهداء ولم يسلكها مقاوم غاد إلى عملية فدائية أو عائد منها، ولم تشتعل في التظاهرات وتتردد في أنحائها هتافات الوطن الممتد من البحر إلى النهر، ولم تشهد فصولاً من الانتفاضات ضدّ الاحتلال والثورات ضدّ الاستعمار الإنكليزي، ولم تحو شيئاً من شكل الحياة الفلسطينية، كمزارع يمضي إلى أرضه، أو أطفال عائدين من المدرسة المغلقة في يوم إضراب ينشدون للثورة والبندقية، فعلى هذه الطرق تبتر الذاكرة ويختفي كل هذا لتستقر مكانه تلك اللافتات الضخمة التي تملأ الطرقات الجديدة بالعبارة المشؤومة الأشهر الممهورة بها كل مشاريع USAID: هدية من الشعب الأميركي».



تلميع الصورة الأميركية لدى الفلسطيني

إلى جانب المشروع الأكبر لتشكيل شبكة الطرق للفلسطينيين في الضفة بما يتناسب مع شروط إسرائيل وبما يفرّغ الذاكرة الجماعية، عملت «يو أس إيد» على تحسين صورتها عند الفلسطينيين، وحظيت شركة «Sky Advertising» المملوكة من نجل الرئيس محمود عباس بعقد بقيمة مليون دولار لتحسين صورة أميركا لدى الرأي العام الفلسطيني.
وجلّ خطاب «تسهيل حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال» إنما هو تكريس لسياسات العزل والإقصاء وإدامة الفصل العنصري، وحتى هذه التسهيلات مهددة بالتقويض في أي لحظة بأمر القائد العسكري الإسرائيلي في المنطقة. وفي تقرير أخير لمجلة «foreignpolicy» الأميركية، يتضح أن شركات مملوكة لأبناء رئيس السلطة الفلسطينية حظيت بعقود لإعادة بناء وشق طرق بتمويل من «USAID»، إلى جانب عقود أخرى في قطاعات مختلفة.