القاهرة | لم يخرج في مصر أحد رابحاً مما جرى طوال عامين منذ اندلاع ثورة «25يناير»، سوى المجلس العسكري، سواء بتشكيله القديم أو الحالي؛ فخلال هذه الفترة شهدت الساحة السياسية حراكاً مكثفاً صعدت فيه شعبية المجلس العسكري، منذ اليوم الأول عقب تنحّي مبارك في 11 شباط 2011، قبل أن تشهد تراجعات متتالية. غير أنها صعدت بعد ذلك، وخاصة في أعقاب إقالة المشير طنطاوي وغالبية أعضاء المجلس العسكري ليحل محلهم الفريق أول عبد الفتاح السيسي، مدير المخابرات الحربية آنذاك، إلى أن وصلت قبل 30 حزيران الماضي إلى 94 في المئة، بينما كانت شعبية الإخوان تقارب 28 في المئة، وشعبية المعارضة، وخاصة جبهة الإنقاذ، تقارب 38 في المئة، بحسب مركز استطلاع الرأي الدولي «جيمز زغبي».وهكذا لم يعد هناك صوت على الساحة السياسية يعلو فوق صوت السيسي، سواء كانوا من جماعة الإخوان والتيار الإسلامي، أو الثوار والنشطاء والأحزاب السياسية، أو أحد من فلول الحزب الوطني.
لكن كيف تلاعب المجلس العسكري؟ ربما لم تكن البداية مخططاً لها؛ فشرارة «25 يناير» أطلقها شباب ثائرون، وتضامن معها شعب تأثر بتراكمات عشرات السنوات من الفساد أو الاستبداد، ليجد المجلس العسكري نفسه أمام مشهد مفاجئ، درسه على مدى عدّة أيام قبل أن يتيقن أنّ رغبته للتخلص من مشروع التوريث قد جاءت على طبق من ذهب قدمه له الشباب الثائر، والشعب الغاضب، لينتهي الفصل الأول من إقصاء مجموعة جمال مبارك من المشهد.
لتبدأ بعد ذلك المرحلة الثانية التي لم تكن مفاجأة للمجلس العسكري، وأولها إيقاف المد الثوري وحماية رئيسها الأعلى السابق، من خلال ترك رجال مبارك الأب يتحركون بكامل الحرية، حتى إن رئيس ديوان رئيس الجمهورية زكريا عزمي، كان يذهب للقصر الرئاسي، وكان وجوده يُبَرَّر بأنّه موظف ولا يمكن إقالته إلا بقرار إداري، وهو ما كشف عن نمط تصور العسكريين لما حدث في «25 يناير»، بأنّه لم يكن ثورة، بل مجرد أحداث، وعلى الشعب أن يعود إلى قواعده.
وعلى المستوى الشعبي، جاء الإعلان الدستوري في 30 آذار 2011 عقب استفتاء 19 من الشهر نفسه، فأكد حينها ممدوح شاهين في لقاء تلفزيوني، أنّ الإعلان الدستوري سيشهد النور، سواء جاءت النتيجة فيه بنعم أو لا، وكان موقف التحكم للمجلس العسكري، بعدما انقسم الشارع المصري حول «نعم» أو «لا» في هذا الاستفتاء.
بعد انقسام الشارع، وتعطيل المساس برجال مبارك وإلهاء الناس بالشعارات الخاصة بتمجيد الشباب، جاءت مرحلة إقصاء الشباب من المشهد، وإشاعة القلاقل بدءاً من أحداث مسرح «البالون» في شهر حزيران 2011، وعدد من الأحداث الأخرى، والتلويح بأنّ مطالب الفقراء تعطل عجلة الإنتاج مع ترك حرية الحركة لبقية القواعد والكوادر في الحزب الوطني المنحل، حتى تمكن بعضها من دخول مجلس الشعب بعد ذلك. وفي خضم ذلك كله، كان المجلس العسكري يحتاج إلى شريك سياسي، يناسب تركيبته الهرمية وبنيته الفكرية، فكانت التيارات الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان التي تنتهج نهجاً إصلاحياً لا ثورياً. بدأ التباعد والشقاق بين هذه التيارات والتيارات الثورية، الذي بلغ ذروته في أحداث محمد محمود الأولى ومجلس الوزراء، حيث تدنت فيها شعبية المجلس العسكري إلى أقل درجة، وصمتت فيها التيارات الإسلامية.
بل إن بعض هذه التيارات برر أفعال المجلس العسكري وسلوكه، والبعض الآخر رفض المساس بها. وهنا كانت الجولة الثانية في التلاعب بالخصوم. فالشباب الثائر، جرت تنحيته وشيطنته، بعد استخدام الإسلاميين في ذلك، لينجح بعدها الإسلاميون في الانتخابات، ويشعرون بالزهو، إلى أن بدأ الطريق للانتخابات الرئاسية. عندها بدأ النظام القديم في التكشير عن أنيابه بعدما كان يتحرك لإحداث القلاقل، وكان ترشح أحمد شفيق عنواناً لذلك. وبدأ صدام ناعم بين المجلس العسكري والإخوان في ذروة الانتخابات، وخاصة مع الإعلان الدستوري المكمل، حيث دخلت جولة الإعادة بين من يمتلكون شبكات مصالح وشبكات اجتماعية وعائلية، وهما محمد مرسي وأحمد شفيق، مرشحَي الإخوان والنظام القديم بعد استبعاد الشاطر وعمر سليمان، وضرب عبد المنعم أبو الفتوح بحمدين صباحي، ليأتي نجاح مرسي بفارق طفيف. نتيجة جاءت بعد امتناع العسكريين عن دعم حلفائهم من رجال مبارك، خشية أن تكون الفاتورة العالية التي سيطالب شفيق بدفعها من قبل رجال الوطني، سبباً في اندلاع ثورة حقيقة، مع استثمار وصول مرسي، الجندي الوفي داخل جماعة الإخوان، التي يمكن مساومتها كثيراً وضربها كثيراً، نظراً إلى حجمها الكبير، إضافة الى سهولة إحراقها.
المرحلة التالية بدأت مع تولي السيسي لمنصبه؛ إذ ظن مرسي أن هذا التغيير سيغير شيئاً في نمط تفكير المجلس العسكري الجديد. غير أن مرحلة جديدة بدأت، تمثلت في ضرب الإخوان بفلول الحزب الوطني ومع أركان الدولة العميقة، ليغترّ الإخوان بأنهم قادرون على هذا الأمر بمفردهم، ويبتعد عنهم الشباب مرة أخرى بعد حدوث تقارب جزئي معهم في مواجهة شفيق، وتتحرك المعارضة لمواجهة تحركات مرسي، التي كانت إما فاشلة أو يجري إفشالها، لتظهر المعارضة بوجه لا يقل سوءاً في الإدارة، في ظل هدوء من القوات المسلحة، وهو يرى حرب الكل ضد الكل التي تدور وتنهك القوى، ممهدةً لـ30 يونيو.
الخطوة الأخيرة جاءت حين استعان المجلس العسكري بحزب الكنبة، وحركة تمرد والثوار في قلب المشهد على الجميع، بأزمات بعضها مفتعل وبعضها جاء بفعل الفشل والتناحر، ليكون استدعاء الجيش وعلى رأسه السيسي هو الحل لكل الأطراف، فتقلب الطاولة على مرسي، وتعود مؤسسات القوة «العسكرية والشرطة» مرة أخرى بقوتها.