من يعرف عمق العلاقة التاريخية التي تجمع أكراد العراق بسكان جنوبه، لا بد أن يستغرب مستوى التوتر وكثرة الأزمات التي تعصف بين سلطات أربيل وحكومة نوري المالكي، ابن الحلة. لكن مثار الاستغراب هذا سرعان ما يختفي بمجرد الغوص في نهج كل من الفريقين في الحكم، على المستويين الداخلي والإقليمي. في الأول، يستميت الأكراد في دفاعهم عن حكمهم الذاتي تحت عنوان الفدرلة، فيما يقاتل رئيس الحكومة لحماية المركز الذي يراه الضمانة الوحيدة لوحدة العراق. وفي الثاني، يبدو اصطفاف أربيل واضحاً في المعسكر التركي ـــ السعودي الذي يعادي المالكي وحكومته وسياساته الإقليمية.
نهجان اصطدما في أكثر من مناسبة، وخصوصاً أن نقاط الخلاف أصلاً كثيرة، تبدأ بقضية كركوك والأراضي المتنازع عليها، وتمر بتعويضات ضحايا الأنفال ولا تنتهي بتوزيع الثروة والصلاحيات بين حكومتي الإقليم والمركز، ولا بحصة كردستان من الموازنة الاتحادية. ولا شك في أن الصراع السياسي الداخلي، في مكان ما، يساعد على تأجيج الخلاف بين الفينة والأخرى، ولا سيما أن التصدي لـ«الأطماع» الكردية له شعبية كبيرة في صفوف سنّة العراق، وخاصة لدى عشائر الموصل وصلاح الدين وديالى، التي يقر قادة «العراقية» و«التحالف الكردستاني» بأنها تدين بالولاء للمالكي بسبب مواقفه هذه.
غير أن تطورات الأشهر القليلة الماضية تؤكد أن الشعرة التي قسمت ظهر البعير كانت الاصطفافات الإقليمية للطرفين، وخصوصاً في ما يتعلق بالموقف مما يجري في سوريا، التي أدت دور الزيت الذي صبّ على النيران المستعرة. ولعل الصدام الأول الكبير كان في المواجهة العسكرية بين القوات النظامية العراقية وقوات البيشمركة في تشرين الثاني الماضي شرق تكريت على خلفية نشر وحدات من «قوات عمليات دجلة» في منطقة متنازع عليها مع أربيل. وربما يكون إقرار الموازنة الخميس المواجهة الثانية الكبيرة التي تهدد بتداعيات غير واضحة المعالم بعد.
مشكلة، كعادة كل المواجهات مع بغداد، وحّدت الفصائل الكردية التي اجتمعت السبت في أربيل برئاسة رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني، وأصدرت بياناً اتهم المالكي بـ«تكريس الانقسام في الصف الوطني العراقي والانفراد في السلطة السياسية وقيادة الدولة»، وبمواصلة «إنتاج الأزمات، وتدويرها وتصعيد التوتر». كما صدرت بعض الأصوات الكردية التي تعتبر أن ما جرى يعطي الحق للإقليم بالاستقلال اقتصادياً.
أوساط قريبة من أروقة صناعة القرار في أربيل تؤكد التزامها «متطلبات الشراكة الوطنية وما ينص عليه القانون والدستور»، مشيرة إلى أن «لا اتجاه حالياً إلى أي نوع من الاستقلال الاقتصادي»، وإلى أنه «من السابق لأوانه الحديث عن أي انسحاب من الحكم في بغداد، الوزراء والمسؤولون الأكراد في مواقعهم يمارسون عملهم كالمعتاد، والمبادرات لم تتوقف من أجل إيجاد حل يرضي الجميع»، رغم استبعادها «استتباب الأوضاع قريباً». وتضيف «نقوم بكل ما هو علينا من واجبات، ولا نحصل في المقابل على حقوقنا التي نص عليها الدستور»، وفي مقدمها «الحقوق السيادية وحقوق شركات النفط وأموال البيشمركة والأشايس، وغيرها كثير، حتى حصة الإقليم من المشتقات النفطية اليومية، بنزين وغاز وما إلى ذلك، لا تصل إلينا»، علماً بأن الموازنة تضمنت نحو 12.3 مليار دولار (17% من قيمتها) حصة الإقليم من النفقات التشغيلية.
ولعل رفض رئيس إقليم كردستان، مسعود البرزاني، في ظل مرض الرئيس العراقي جلال الطالباني، التوسط لحل أزمة الحكم المستعصية في البلاد، على قاعدة أن «اتفاقية أربيل» تشمل كل نقاط الخلاف وكافية وحدها لتسوية الوضع في حال طبقت، ساهم في تأجيج الخلاف بعدما وصلت الأمور إلى حد التجريح الشخصي بينه وبين رئيس الحكومة.
في المقابل، تقول أوساط المالكي إن «الأكراد يستغلون المشكلة الطائفية في البلد أبشع استغلال». وتضيف إنهم «يبيعون النفط ويأخذون عائداته، ويريدون من بغداد أن تدفع مصاريف استخراجه ونقله، والأنكى أنهم يهددون، في حال عدم حصولهم على مرادهم، بأنهم سينضمون إلى الحراك السني في البلاد».
وكان البرلمان العراقي قد أقر الخميس، بعد تأجيل ست مرات تسبب بخسائر للبلاد بمئات ملايين الدولارات، موازنة العام 2013 بقيمة 118.6 مليار دولار، هي الأضخم من نوعها في تاريخ البلاد، وذلك رغم مقاطعة نواب التحالف الكردستاني وغالبية نواب القائمة «العراقية». وخصصت الموازنة المذكورة نحو 750 مليون دولار للشركات النفطية العاملة في كردستان العراق، بدلاً من 4.5 مليارات دولار وفق الحسابات الكردية، تغطي الفترة الممتدة من العام 2010 إلى العام 2013. وهي القضية التي عرقلت صدور الموازنة لأسابيع، والتي نشبت على خلفية توقف سلطات كردستان عن تصدير النفط الخام عبر أنابيب التصدير الرسمية الخاصة بالحكومة المركزية أواخر العام الماضي احتجاجاً على تأخير الدفع للشركات المنتجة للنفط في الإقليم، علماً بأن التصدير، حتى قبل هذا التاريخ، لم يكن بمعدل 250 ألف برميل نفط يومياً حسبما ينص عليه الاتفاق الموقّع بين حكومة الإقليم والحكومة المركزية في أيلول الماضي.
وتتذرّع حكومة بغداد، التي يقول مسؤولوها إنها دفعت دفعة أولى بقيمة 650 مليار دينار للشركات العاملة في كردستان العام الماضي وأرجأت الدفعة الثانية وقيمتها 350 مليار دينار بعدما أوقف الأكراد التصدير، بأن على السلطات الكردية أن تدفع أولاً ثمن 250 ألف برميل نفط يومياً التي امتنعت عن تصديرها منذ تشرين الثاني الماضي، وخاصة بعدما أثار غضبها قرار أربيل تصدير 15 ألف برميل نفط يومياً إلى تركيا عبر شاحنات، وإعلانها أنها تعتزم رفع هذه الكمية تدريجاً.
ومعروف أن الخلاف حول المدفوعات والتصدير ليس سوى تفصيل في الخلاف الأساسي، حيث ترى حكومة بغداد جميع العقود التي أبرمتها السلطات الكردية مع الشركات الأجنبية باطلة لأنها لم تحظ بمصادقة الحكومة المركزية، فيما تعتبرها حكومة أربيل شرعية، مستندة إلى ما ينص عليه دستور البلاد.
وجرى التصويت بحضور 168 نائباً من مجموع 325 عضواً، هم عدد أعضاء مجلس النواب، علماً بأن النصاب القانوني يتطلب حضور 163 نائباً. تصويت يعيد التأكيد على تماسك التحالف الوطني العراقي خلف حكومة المالكي، وسقوط رهانات البعض على انشقاق كتلة «الأحرار» التي يتزعمها السيد مقتدى الصدر، أو تعاطف كتلة «المواطن» بزعامة السيد عمار الحكيم.