الثورة تنطق من شعاراتها، تستطيع أن تفهم مطالب الناس من شعاراتهم، فهي تلخص لك رؤيتهم إلى اللحل. فحينما رفع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» في تظاهرات تونس ومصر عرف الإعلام أن المطلوب هو تغيير سياسي جذري يتمثل في أن يحكم الشعب نفسه بنفسه.
كذلك كانت شعارات «ثورة اللؤلؤة» في البحرين في 14 شباط عام ٢٠١١ عندما انطلقت. وبرغم انطلاق شعارين رئيسيين في ذلك الوقت بين «إسقاط النظام» و«إصلاح النظام»، فإن مدارهما كان بوضوح حول ضرورة التغيير السياسي الجذري، الذي يمنح الشعب القدرة على أن يحكم نفسه بنفسه، ضمن آليات هو يحددها ويتفق عليها. الخطاب السياسي المعارض في تلك المدة، على الأقل، كان متفقاً على أن التغيير السياسي هو الأساس. كذلك كان الخطاب الرسمي، ولكن الاختلاف كان فقط في سقف التنازلات التي كان النظام مستعداً لها، وسقف حلم الشباب المعتصمين في «دوار اللؤلؤة». حتى البيانات الرسمية من الدول خصوصاً الغربية منها كانت تحث على إجراء إصلاح سياسي شامل يتوافق عليه البحرينيون.
بعد دخول قوات الاحتلال السعودي إلى البحرين لقمع الثورة، وتدمير رمزها، وهدم مساجدها، وبعدما صار القتل على الهوية في الشارع، وتحديداً بعد تشكيل ما عرف بـ«لجنة بسيوني»، التي كانت مهمتها «معرفة ما إذا كانت الحكومة البحرينية قد ارتكبت جرائم ضد الانسانية أم لا ؟»، كما عبر رئيسها محمود بسيوني، في ذلك الوقت، في هذه اللحظة، بدأت إعادة البرمجة للثورة البحرينية لتكون مرتكزة على مفردة «حقوق الإنسان» والانتهاكات في هذا المجال.
حتى بيانات الحكومات والإدارات الغربية بدأت تركز بصورة واضحة على حالة حقوق الإنسان، وبدأت بريطانيا مشاريعها في إصلاح منظومة القضاء والسجون والداخلية بعقود ضخمة، كما بدأت المؤسسات الدولية الرسمية والمدنية في إصدار البيانات المتتالية والمطالبة بضرورة إصلاح وضع حقوق الإنسان في البحرين.
انطلت اللعبة على الجميع، فالحكومة لا تتحدث عن أي إصلاح أو تغيير سياسي، بل إنها بين مدة وأخرى ترسل إشارات أنها تلقت شكاوى «بسوء المعاملة» وأنها أحالت المتهمين إلى القضاء الذي دائماً ما يبرأهم، والمعارضة انشغلت بصورة كبيرة في استخدام انتهاكات حقوق الإنسان ضمن خطابها الإعلامي، وقل وجود التغيير السياسي.
صارت قضية احترام حقوق الإنسان هي أكثر بضاعة رائجة في العالم اليوم، تستطيع الحصول على التمويل لأي مشروع يهتم بحقوق الإنسان، وترتيب لقاءات مع المسؤولين «السياسيين» إن كانت صفتك تتعلق بحقوق الإنسان، ويصعب إن كانت صفتك سياسية. هكذا بدأ الغرب في برمجة المعارضة في البحرين، بأن يهتموا بحقوق الإنسان، وهو ما دفع الأحزاب السياسية المعارضة والموالية إلى إنشاء مكاتب لحقوق الإنسان تابعة لها، لأنها تسهل لهم عملهم المعارض.
في الثاني من شباط الجاري، وجه وزير الشؤون الخارجية البريطاني، توبياس إلوود، دعوة إلى جمعية «الوفاق الوطنية الإسلامية» المعارضة، للانخراط في حوار سياسي من أجل التوصل إلى تسوية شاملة في البحرين، وذلك بعد يوم واحد اجتمع السفير البريطاني في المنامة، سايمون مارتن، مع ممثلين عن جهات حقوقية لشرح وجهة النظر البريطانية، والتأكيد على أن بريطانيا تعمل مع حكومة البحرين من أجل إصلاح أوضاع حقوق الإنسان.
خطوة مارتن كانت إعادة توجيه البوصلة من الحالة السياسية إلى الحقوقية. لندن نفسها هي التي دائما ما تحاول أن توفر الغطاء السياسي والحقوقي للمنامة، بل إنها دائماً تسعى إلى تخفيف لغة البيانات التي تصدر من البرلمان الأوروبي، التي غالباً تنتقد سجل البحرين الحقوقي. نحن هنا لا ننفي المشكّل الحقوقي في البحرين، ونعرف ــ بصفتنا بحرينيين ــ كم هو قاس ومؤلم أن تعيش في هذا الوضع منذ خمس سنين، ولكن ما يحاول الغرب أن يبرمجنا على القبول به، هو أن إصلاح حقوق الانسان هو الأفضل لكم. هذا خطأ منهجي، لأن المشكلة الأساسية في البحرين هي سياسية، فأنت غير قادر على حكم نفسك بنفسك، لديك برلمان أكثر من نصف أعضائه موالون للسلطة، ولديك فساد بلا مفسدين، وسرقة بالقانون، وأخيراً بلد صارت كل قراراته تديره الرياض.
لهذه الأسباب وغيرها، ستبقى المشكلة في البحرين دون حل، فلا أوضاع حقوق الإنسان ستتحسن، ولا الاستقرار سيحدث. وما نحتاج إليه في هذه اللحظة بعد خمس سنوات من الثورة والانغماس الكبير في مجال حقوق الإنسان، أن تفعّل المعارضة السياسية دورها السياسي لتعيد البوصلة مرة أخرى نحو مجال «التغيير السياسي»، وأن تؤسس إلى أن إصلاح حقوق الإنسان من غير الممكن دون الإصلاح السياسي، لأنك متى ما وفرت آليات الحكم الرشيد، فإن آليات مراقبة وإصلاح حقوق الانسان ستكون من داخل مؤسسات الحكم نفسه... ولن تكون بحاجة إلى بيانات الخارج.

*ناشط بحريني