أصدرت الحكومة المصرية، في مستهل الأسبوع الماضي، قراراً يفيد بأن فترة «تخفيف الأحمال» ستمتد إلى 3 ساعات يومياً بدلاً من ساعتين، لمدة أسبوع واحد، في وقت كان فيه التيار الكهربائي يُقطع عن العديد من المناطق لمدة تتجاوز أحياناً 6 ساعات. وقال مصطفى مدبولي، رئيس الحكومة، الثلاثاء الماضي، إن تعطّل «أحد الحقول في إحدى دول الجوار» لساعات، هو ما تسبّب في الزيادة الأخيرة لفترة تخفيف الأحمال.وتحلم مصر، منذ عقد مضى، بأن تصبح مركزاً للطاقة في الشرق الأوسط، في ظل ادّعائها تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي في عام 2018، واتّجاهها، منذ ذاك الحين، إلى استيراده من إسرائيل وتسييله ثم تصديره إلى الاتحاد الأوروبي. لكن الواقع خيَّب آمال الحالمين، وانتهت الحكومة إلى وقف تصدير الغاز وتوجيه المستورَد من الكيان إلى الاستهلاك المحلي لتغطية العجز في الكهرباء. لكن هذه الكمّيات لم تعد تكفي، في ظلّ ارتفاع درجات الحرارة عن المعدلات الطبيعية خلال الشهر الماضي، لتعود مصر سريعاً إلى استيراد الغاز بكمّيات كبيرة.

بيانات الغاز الطبيعي
توضح البيانات الرسمية انخفاض إنتاج مصر من الغاز الطبيعي، في عام 2015، إلى 42.6 مليار متر مكعب، قبل أن يرتفع إلى ذروته في عام 2018 بواقع 60 ملياراً، ثم يتراجع في عام 2023 إلى 59.3 ملياراً، مع بلوغ الإنتاج اليومي 5.8 مليارات قدم مكعب. وأدى ذلك التراجع إلى ظهور فجوة بين حجم الإنتاج (59.3 مليار متر مكعب) والاستهلاك (61.8 مليار متر مكعب)، بعد جسْرها اعتباراً من عام 2018، بفضل إنتاج حقل «ظهر» والذي وصل إلى ذروته عام 2021، بواقع 2.7 مليار قدم مكعب يومياً، ليتراجع أخيراً إلى مليارين. كذلك، تراجع إنتاج الغاز الطبيعي خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري، بنسبة 14%، ليصل إلى 17.7 مليار متر مكعب مقارنة بـ 20.5 ملياراً في الفترة نفسها من العام الماضي.
وقد بدأت مصر عملياً استيراد الغاز الطبيعي منذ منتصف العقد الماضي، إذ بلغت وارداتها، في عام 2015، نحو ثلاثة مليارات متر مكعب من الغاز المسال، لترتفع في 2016 إلى 10.15، ثم تتراجع إلى 8.9 في 2017، وإلى 3.5 في عام 2018، مع إعلان الاكتفاء الذاتي. وفيما تراجع الإنتاج بنحو 2.8 مليار متر مكعب، توضح البيانات الرسمية ارتفاع واردات الغاز في الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري بنحو 18%، لتبلغ الزيادة نحو 650 مليون متر مكعب. واستوردت مصر، خلال شهرَي نيسان وأيار الماضيَين، شحنتَي غاز مسال عن طريق الأردن، بلغ حجمهما 279 مليون متر مكعب، أي ما يعادل أقلّ من نصف فجوة الإنتاج التي يبلغ متوسطها الشهري 700 مليون متر مكعب تقريباً. وإلى جانب ذلك، تعتزم القاهرة شراء 18 شحنة من الغاز الطبيعي المسال خلال الصيف الحالي، وقد خصصت لهذا الغرض نحو 1.2 مليار دولار لـ«تجاوز فترة الصيف من دون تخفيف الأحمال»، وفق ما قال مدبولي.

«إسرائيل» حاضِرة
منذ عام 2008، صدَّرت مصر الغاز الطبيعي إلى إسرائيل بأقلّ من متوسط السعر العالمي، إذ خسرت نحو 715 مليون دولار. لكن الاتفاق المشار إليه سرعان ما أُلغيَ في عام 2012، إلى أن توصلت الحكومة المصرية، في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، إلى تسوية مع الكيان تلزمها بدفع نصف مليار دولار تعويضاً عن قرار وقف التصدير، إلى جانب اتفاق لاستيراد الغاز من حقلَي «تمار» و«ليفياثان»، تصدّر إسرائيل بموجبه 85 مليار متر مكعب سنوياً إلى مصر، بقيمة 19.5 مليار دولار لمدّة 15 عاماً. ومع بداية معركة «طوفان الأقصى»، علّق الاحتلال الإنتاج في حقل «تمار» لمدّة أسبوعين، فأصبح الاستهلاك المحلّي معتمداً على إنتاج حقل «ليفياثان» الذي تشكّل صادراته نحو 95% من واردات مصر من الغاز الطبيعي، وهو ما أدى إلى انخفاض واردات الأخيرة من الغاز إلى الصفر خلال تشرين الأول الماضي، ما نتج منه قرار «تخفيف الأحمال» لمدّة ساعتين يومياً.
منذ عام 2008، صدَّرت مصر الغاز الطبيعي إلى إسرائيل بأقلّ من متوسط السعر العالمي، إذ خسرت نحو 715 مليون دولار


على أيّ حال، عادت إمدادات الغاز لتواصل تصاعدها مرّة أخرى، مع ارتفاع إجمالي واردات مصر من الغاز الإسرائيلي إلى 2.63 مليار متر في الفترة ما بين كانون الأول الماضي وأواخر آذار من العام الجاري، مقارنةً مع 1.85 مليار في الفترة نفسها من العام الفائت، أي بزيادة سنوية بلغت 745 مليون متر مكعب تقريباً. ومع ذلك، توقّف حقل «تمار» عن إنتاج الغاز لمدّة 10 أيام، اعتباراً من 27 أيار الماضي (لغاية بداية حزيران)، ما أدى إلى انخفاض واردات مصر من الغاز إلى نحو 550 مليون قدم مكعب يوميّاً، فيما حدث عطل في حقل «ليفياثان»، بداية الأسبوع الماضي، حيث توقّف الإنتاج ليوم واحد، وتالياً تراجعت واردات مصر من الغاز، وزادت ساعات «تخفيف الأحمال» إلى ثلاث يوميّاً.

خاتمة
استخدمت مصر، منذ عام 2018 حتى أواخر العام الماضي، نحو 60% من الغاز المنتج محلّياً لتوليد الكهرباء، لكن عدم كفاية الغاز المحلّي خلال العام الماضي لم يكن هو السبب في «تخفيف الأحمال»، وإنّما الأزمة المالية، بعدما اتجهت الحكومة، في ظلّ شحّ الدولارات وتصاعد دور السوق السوداء، إلى تكثيف صادرات الغاز المسال إلى أوروبا لتُحصِّل أكبر قدر ممكن من النقد الأجنبي، في وقت تعرف فيه الحكومة أن الاستهلاك المحلّي من الكهرباء يتزايد بسرعة بسبب ارتفاع درجات الحرارة. وجاء انخفاض إنتاج حقل «ظهر» مؤاتياً لموجات متتالية من ارتفاع الحرّ، وسلسلة من أعطال الإنتاج في حقول الغاز في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الأمر الذي دفع الحكومة، أخيراً، إلى تمديد فترة «تخفيف الأحمال». وبذلك، عادت مصر إلى الاعتماد في استهلاكها المحلّي على الغاز الطبيعي، على المستورد من الخارج، والذي يأتي معظمه من إسرائيل، حتى مع محاولات الحكومة تنويع مصادره.
وتوضّح البيانات السابقة أن توجّه الحكومة إلى استيراد الغاز الطبيعي لن يحلّ أزمة الكهرباء إلا مؤقتاً، وأن استيراد مصر وتصديرها للغاز تحيطهما بعض المشكلات: أولاً، الحكومة المصرية ملتزمة بتوريد كمّيات معينة من الغاز الإسرائيلي وتسييلها، ثم تصديرها إلى الاتحاد الأوروبي بموجب عقود سارية، وقد يتسبب توقّف تصدير الغاز بمشكلات متعلقة بعقود التصدير. ثانياً، سيستغرق ضخ الغاز في شبكات الكهرباء وقتاً طويلاً، ولا تستطيع سفينة التغويز النرويجية «هوج غاليون» أن تضخ أكثر من 350 مليون قدم مكعب من الغاز يومياً، فيما تحتاج مصر إلى نحو 6 مليارات قدم مكعب يومياً.
ثالثاً، جميع الكمّيات التي ستورَّد من أجل تشغيل محطات الكهرباء قد تكون كافية بالحد الأدنى لتعوّض الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك حتى نهاية هذا الصيف، ولكن من المرجّح أن تظلّ فترة «تخفيف الأحمال» قائمة باختلاف عدد ساعاتها من مكان إلى آخر، على عكس تصريحات الحكومة وبياناتها.
إذاً، لن يحلّ استيراد الغاز معضلة الكهرباء إلا مؤقتاً، ما يدفع إلى التساؤل عن ماهية الأسباب الكامنة وراء منع مصر من استخراج الغاز من حقلَي «نور» و«ميراك» اللذين يفوقان حقل «ظهر». في الواقع، توجد مجموعة من الشركات العالمية تحكم عمليات استخراج الغاز الطبيعي في مصر، من مِثل «دو فرانس» الفرنسية، و«بريتش غاز» و«بريتش بتروليوم» البريطانيتين، و«يونيون فينوسا» الإسبانية الإيطالية، إلى جانب شركة «دوليفونس» المصرية التي يملكها رجل الأعمال علاء عرفة، والتي تستورد الغاز من إسرائيل منذ عام 2018، بموجب اتفاق الحكومة المصرية مع نظيرتها الإسرائيلية، فيما ليس من مصلحة جميع هؤلاء بدء عمليات الاستخراج من حقلَي «نور» و«ميراك»، بل إبقاء مصر رهينة للغاز الفلسطيني المنهوب.
وتستخدم إسرائيل ملف الغاز سياسياً للضغط على مصر، وخاصة مع اتّخاذ الأخيرة موقفاً متمايزاً عن الموقف الإسرائيلي في المفاوضات الجارية بين حكومة الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، ولكن تبقى الأزمة الأكبر أعمق من ذلك؛ إذ تعاني مصر أزمة اقتصادية هيكلية يُعبّر عنها تراجع الإنتاج المحلّي في الصناعة والزراعة، وتراجع عوائد المصادر الأساسية للاقتصاد، الريعية أصلاً، مع نقص النقد الأجنبي، واتجاه الحكومة إلى خصخصة الشركات المملوكة للدولة والاقتراض لتسديد أقساط وفوائد الديون المتراكمة. ومعضلة الكهرباء الحالية مرتبطة بتراجع إنتاج الغاز الطبيعي محلّياً، وارتهان مصر إلى الغاز المستورد، إلى جانب سوء التخطيط وتجاهل التحذيرات السابقة.