مع اشتداد المواجهات العسكرية في مدينة الفاشر، في ولاية شمال دارفور، بين الجيش السوداني وحلفائه من القبائل، وقوات «الدعم السريع» التي فقدت أحد أهمّ قادتها في المعارك الجارية في المدينة، وهو علي يعقوب، تنحو الأزمة السودانية نحو مزيد من الاستقطاب، الذي يعزّزه فشل «القوى المدنية» في طرح خيارات واقعية ومقبولة. ويأتي ذلك وسط ترقب لاجتماع القاهرة الذي يبدو أنه فقد زخمه بعد إحجام الخارجية المصرية عن طرح ملف السودان خلال زيارة الوزير سامح شكري إلى موسكو، وما تروّج له منافذ إماراتية عن دعم إيراني للجيش السوداني، باعتباره مبرِّراً لتصعيد الدعم الخليجي لـ«الدعم السريع».
الفاشر إلى الواجهة مجدداً
مثّل مقتل علي يعقوب (14 الجاري) انتكاسةً معنوية لقوات «الدعم السريع»، لا سيما أن تصفيته جاءت بعد ساعات قليلة من حصول الجيش على تأييد واحدة من أكبر القبائل العربية في السودان (الرزيقات)، وما يمثّله ذلك من تحوّل حقيقي في الأزمة، أخذاً في الحسبان اتّساع رقعة انتشار القبيلة في ولايات دارفور وكردفان وداخل تشاد المجاورة، والتي تمثّل أهمّ خطوط إسناد «الدعم» عسكريّاً ولوجيستيّاً. كذلك، إن التصدي للهجوم الكبير الذي قاده يعقوب (13-14 الجاري)، تم على يد قوّة مشتركة (بحسب بيان لـ«حركة العدل والمساواة»)، شمل إلى جانب الجيش، قوات تابعة لـ«حركة المقاومة الشعبية» بمختلف مكوناتها، فيما جاء هجوم «الدعم» على الفاشر في توقيت الصدور لقرار لمجلس الأمن نفسه (13 حزيران) يطالب الأخيرة بـ«إنهاء الأعمال العدائية وحصار الفاشر».
واتّضح من مداولات مجلس الأمن بهذا الخصوص، وجود اتهامات لأبو ظبي بتمرير أسلحة ومعدات اتصال وعربات مسلّحة ودعم استخباري لقوات «الدعم السريع»، لكن المجلس تحفظ على الإشارة علانية إلى الإمارات، التي بادرت بعد صدور القرار بساعات، إلى الإعلان عن توجيه 70% من مساعداتها التي تعهّدت بها خلال «مؤتمر باريس» حول السودان (نيسان الفائت)، وبلغت 100 مليون دولار، إلى هيئات الأمم المتحدة المعنية «من أجل إنهاء الأزمة الإنسانية في السودان». وكان قد كشف موقع «PassBlue»، منتصف الجاري، نقلاً عن مسؤول كبير في الأمم المتحدة، عن استخدام «الدعم» أسلحة «استقدمتها الإمارات من صربيا والولايات المتحدة»، وصادر الجيش السوداني بعضها.
يبدو أن التفاؤل الذي رافق الإعلان عن «مؤتمر القاهرة» قد قابله تشاؤم سوداني يعظّم من أولوية التوصّل إلى حلّ عسكري للحرب


وربط مراقبون سودانيون قرار مجلس الأمن الأخير، بضغوط مارستها بريطانيا والولايات المتحدة، فيما يعزّز صدوره الضغط الدولي على «الدعم»، ويضع أبرز داعميها في الخليج في مأزق. ودفع ما تقدّم، حميدتي، وفقاً لتصريحات نقلتها عنه صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية (17 الجاري)، إلى اتهام «المقاومة الشعبية» (التي أشار إليها بيان «حركة العدل والمساواة») بأنها «غطاء لقوات النظام البائد، وعناصرها من الجيش والقوات الأمنية الأخرى». وأرجع حميدتي، في أول رسالة صوتية له منذ شهرين، التصعيد في الفاشر، إلى الفصائل المسلحة، قائلاً إنه «لم يَعُد لدينا خيار سوى الدفاع عن أنفسنا». وجاءت تصريحاته بعد أقل من أسبوع واحد من اتهام منظّمة «أطباء بلا حدود»، قواته بنهب مستشفى رئيس في الفاشر، وقتل عدد من المرضى بعد عمليات إطلاق نار على الأطقم الطبية.

أفق التسوية السياسية: كل الطرق تؤدي إلى جدة؟
استضافت القاهرة اجتماعاً تشاوريّاً عقدته «جامعة الدول العربية» حول السودان (12 حزيران) بغرض تبادل الآراء «حول سبل تنسيق مبادرات السلام وجهوده في السودان»، حضره ممثّلون عن الأمم المتحدة، و«الاتحاد الأفريقي»، و«الهيئة الحكومية للتنمية» (إيغاد)، والاتحاد الأوروبي، وكل من مصر والسعودية والولايات المتحدة. وفيما شدّد الاجتماع على ضرورة حفظ سيادة السودان واستقلاله وتفادي مزيد من الانتهاكات التي ترقى إلى «التطهير الإثني»، رحّب بالجهود المصرية لعقد مؤتمر للقوى السياسية المدنية السودانية نهاية الشهر الجاري، باعتباره نقطة انطلاق «لحوار وطني سوداني»، وكذلك دعم جهود واشنطن والرياض باعتبارهما راعيتَي محادثات جدة.
ويبدو أن التفاؤل الذي رافق إعلان القاهرة عن «المؤتمر»، إلى درجة اعتباره محطّة فاصلة (أو نهائية) في تحقيق تسوية سياسية في السودان، قابله تشاؤم سوداني يعظّم من أولوية التوصّل إلى حلّ عسكري للحرب، على نحو يمهّد لاحقاً لعملية سياسية شاملة، على اعتبار أن أقصى ما يمكن لـ «مؤتمر القاهرة» تحقيقه، هو الاتفاق على أجندة مدنية لوضع تصوّر لحلّ الأزمة، والاتفاق على حزمة قواعد وطنية لليوم التالي للحرب؛ علماً أن لكل من الأطراف المنضوية في «تقدّم» ارتباطاته الخارجية التي تؤثر على تصوّراته إزاء «مؤسسات الدولة الوطنية».
وعلى أي حال، يبدو أن القاهرة تنظر إلى المؤتمر باعتباره خطوة مهمّة لتوفير غطاء مدني لعودة «طرفي الصراع» إلى منصة محادثات جدة، وهو ما تعزّزه عودة السعودية إلى الاهتمام بالملف السوداني، في أعقاب لقاء جمع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، خلال أداء الأول لمراسم الحج، وأيضاً مناقشات وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، مع نظيره السعودي، فيصل بن فرحان، حول الأزمة السودانية (16 يونيو)، وتشديدهما على «الحاجة الملحّة» إلى الجهود الدولية لوضع نهاية للحرب وتفادي وقوع المجاعة فيه.

خلاصة
رغم صدّ الجيش السوداني هجوم «الدعم السريع» جنوبي مدينة الفاشر، بالتزامن مع قرار مجلس الأمن، فإن أفق حسم الأزمة لا يزال غامضاً، وسط استمرار تذبذب فرص الحسم العسكري، وضعف المبادرات المختلفة (التي تقودها القاهرة وواشنطن والرياض مرحليّاً) لإيقاف الحرب. ولا يبقى سوى ترقُّب مآل المواجهات العسكرية بين الطرفين، إمّا في الفاشر أو في نقاط اشتباك أخرى، وتعاطي القوى المدنية مع «مؤتمر القاهرة»، ومخرجات التنسيق السعودي - الأميركي.