اقترح رئيس أركان جيش الاحتلال، هرتسي هليفي، على رئيس حكومته، بنيامين نتنياهو، مخرجاً للحرب على قطاع غزة، مستعيراً ما كان قد اقترحه السيناتور الأميركي، جورج آيكن، على الرئيس ليندون جونسون، في ذروة حرب فييتنام: «لِنخرج من هناك، ونعلن أنّنا انتصرنا». ويحمل اقتراح هاليفي الذي تسرب إلى الإعلام (يديعوت أحرونوت) أكثر من دلالة، وإن كان لا يحتمل الكثير من التفسيرات: إسرائيل تنزلق ببطء من دائرة «الإنجازات» التي حقّقتها، إلى دائرة فقدان المبادرة وحرب الاستنزاف، وهذا ما لا قدرة للجيش عليه. ويأتي ذلك فيما تتواصل، للأسبوع السابع على التوالي، معركة رفح، حيث اجتاحت إسرائيل نحو 60% ممَّا يحيط بالمدينة، فضلاً عن سيطرتها على شريط ملاصق للحدود مع الجانب المصري، بما يشمل المعبر وصولاً إلى البحر، وباتت تطوّق رفح من ثلاث جهات، شرقية وجنوبية وغربية، فيما أنهى جيش الاحتلال سيطرته على معظم الفلوات بين المدينة والحدود مع أراضي الـ 1948 شرقاً. ووفقاً لبيانات العدو، جرى تفكيك كتيبتَين ممّا يقول إنها أربع كتائب لـ«حماس» في منطقة رفح، وإنه في حال صدَر الأمر من المستوى السياسي، فسيكون بحاجة إلى بضعة أسابيع إضافية للسيطرة على المدينة.وتشكّل رفح آخر هدف ميداني لجيش الاحتلال، إذ سينتقل في أعقابها إلى الاستنزاف جنوبي القطاع، تماماً كما هو حاصل في شماله ووسطه، بعد أن يفقد آخر رافعة ضغط على المقاومة، لحملها على التراجع عن موقفها. وفي هذا الجانب، يمكن التقدير أن ثمة قلقاً لدى الجيش من اليوم الذي يلي تلك المعركة، إذ سيكون المقاومون أكثر تشبّثاً بموقفهم، مع انكفائهم من المواجهة المباشرة والمحاور المتقابلة، إلى العمليات وحرب العصابات والكمائن، أي باختصار استنزاف الجيش الإسرائيلي. ومن هنا، فاستعارة هليفي ترتبط بتقديره لِما سيأتي، وبرؤيته لضرورة الاحتفاظ بأوراق ميدانية يجري العمل على استغلالها من أجل تحسين المخارج السياسية، وفي الوقت نفسه الابتعاد أسرع ما أمكن عن حرب استنزاف أكدت عمليات الأيام القليلة الماضية أنها مرهقة ومكلفة، بعدما قُتل 15 جندياً وضابطاً في غضون يومين في منطقة رفح.
وكانت قد ربطت إسرائيل الانتصار على حركة «حماس»، بالسيطرة على منطقة رفح والقضاء على الكتائب الأربع المقاتلة فيها. وعلى هذه الخلفية، باتت المدينة تشكّل محطّة فارقة للقيادة السياسية كما العسكرية، وإنْ كانت الأولى هي التي ربطت انتصارها «المطلق» بالدخول إلى رفح، فيما يبدو أن الجيش يعمل على تكييف نفسه مع مطلب السياسيين، لينتقل منه، في حال أمكنه هذا، إلى إعلان نهاية الحرب التي لا يريد الاستمرار فيها، وذلك عبر الإعلان عن الانتهاء من تفكيك آخر كتائب المقاومة في قطاع غزة. ومن هنا، يدّعي جيش العدو، في بياناته، أنه فكّك كتيبتَين من أصل أربع في منطقة رفح، وأنه بحاجة إلى ما بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع للانتهاء من تفكيك الكتيبتَين المتبقيتَين.
يمكن التقدير أن المؤسسة العسكرية تنقل عبء الحرب ونتيجتها إلى المؤسسة السياسية


ولكن، ماذا بعد «التفكيك»؟ هل هي معركة على الوعي، في الداخل الإسرائيلي أولاً، ولدى الآخرين ثانياً؟ الإشارات الواردة من المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تفيد بذلك، فيما يظهر أن الداخل في إسرائيل سيكون على موعد مع «جردة إنجازات» الحرب في قطاع غزة بعد عدة أسابيع، وهو ما يسبق أو يمهّد لإنهاء الحرب عقب إعلان الانتصار فيها. و«جردة الإنجازات» هذه، تتوافق مع النصيحة التي تلقّاها جونسون، والتي استعارها هليفي الآن. لكن، هل توافق المؤسسة السياسية على مثل هذا المسار؟ التباين يَظهر واضحاً بين المؤسستَين، والواضح أيضاً أن الجيش الإسرائيلي بدأ بتسريب معطيات وتقديرات، مكثّفة ومدروسة، ليقول إنه أنهى المهمّة، وإن النتيجة الحالية هي أقصى ما يمكن إنجازه عسكرياً، وإنه ينوي أن يقرن ذلك بعرض إنجازات الحرب في الأسابيع القليلة المقبلة، وفقاً لما أكدته مصادر رفيعة للإعلام، في محاولة للإيحاء، للإسرائيليين أولاً، بانتصار مشكوك فيه.
وعليه، يمكن التقدير أن المؤسسة العسكرية تنقل عبء الحرب ونتيجتها إلى المؤسسة السياسية، محاولةً القول إنه حان الوقت لتثمير الإنجازات العسكرية وترجمتها في شكل ترتيبات ومخارج سياسية للحرب نفسها. وبكلمات أخرى، يشدّد العسكر على البديل السياسي، باعتباره الخيار الوحيد المتبقّي، ليبدو وكأن المعركة الآن إسرائيلية - إسرائيلية، في حين أن المقاومة، وفي مقدمتها حركة «حماس»، لا تزال على تموضعها وشروطها. وإذا كان الآتي هو حرب روايات و«جردات إنجازات»، فسيكون الأسرى الإسرائيليون، بالدرجة الأولى، هم ما سيمنع الوعي الجمعي الإسرائيلي من تقبّل رواية تل أبيب الرسمية؛ إذ كيف يتفق حسم الحرب، والقضاء على آخر كتائب المقاومين، مع المطالبة باستئناف المفاوضات للتوصّل إلى اتفاق لتبادل الأسرى؟