مع تعقُّد مسارات الحرب في السودان، بين طرفَيها الممثّلَين بالجيش و«الدعم السريع»، وتوجُّه الأنظار نحو مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمالي دارفور، بدأ «تحالف القوى الديموقراطية المدنية» (تقدّم)، اجتماعه التأسيسي في أديس أبابا (27 - 30 الجاري) بمشاركة أكثر من 600 شخص يمثّلون مجموعات سياسية ومدنية و«لجان مقاومة» رافضة للحرب، ويتقدّمهم رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك. ووفقاً لمراقبين سودانيين، فإنّ مطالب «تقدّم» وغاياتها، تشبه إلى حدّ كبير ما دفعت إليه القوى المدنية (الموالية أساساً لـ«مجلس السيادة») التي عقدت اجتماعاً، منتصف أيار الجاري، في القاهرة، لناحية الدعوة إلى وقف العنف والأعمال العدائية فوراً، ولجوء «طرفَي النزاع» إلى تسوية سياسية، والعودة إلى المفاوضات عبر «منصّة جدة».
المؤتمر التأسيسي لـ«تقدّم»: المخرجات والدلالات
جاء انعقاد المؤتمر التأسيسي لـ«تقدّم»، في أديس أبابا، ليمثّل ضربةً جديدة لمساعي «مجلس السيادة»، بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، لتعزيز أوراقه بمواجهة مناوئيه السياسيين والعسكريين. كما أتى بعد ساعات قليلة من انتهاء جلسة مجلس الأمن المغلقة حول السودان (24 أيار)، والتي لم تناقش عنوانها الرئيس المفترض: الدور الإماراتي في السودان ودعم أبو ظبي لقوات «الدعم السريع»، مع جنوح سفير موزمبيق في المجلس، الذي تترأّسه بلاده لشهر أيار الجاري، إلى مناقشة فضفاضة للأزمة. ويبدو أن الإمارات، التي تتمتّع بشراكة إستراتيجية راسخة مع إثيوبيا، قد آثرت المضيّ قُدماً في مباغتة البرهان وفريقه، لكن من «المدنيين» هذه المرّة، وسط تقارير سودانية عن دعم مالي ولوجيستي قدّمته أبو ظبي لمؤتمر «تقدّم».
ومن جهته، دعا حمدوك، الذي عمل موظّفاً في الأمم المتحدة في أديس أبابا لعقود، إلى عقد مؤتمر «مائدة مستديرة» عاجل للاتفاق على تطبيق مبادئ «إعلان نيروبي» (الذي وقّعه بصفته الشخصية وليس ممثلاً لـ«تقدّم»)، وحثّ «الأطراف المتحاربة» على الوقف الفوري للقتال. وأبرزت أجندة «المؤتمر التأسيسي» اهتماماً بخمس قضايا رئيسة، هي: الإصلاح الأمني، والمعونات الإنسانية، والصحة، والتعليم، وترتيبات ما بعد الحرب. كذلك، أكد حمدوك حياد «تقدّم» في مقاربة الأزمة الراهنة، نافياً بالتالي ارتباط تحالفه بدعم قوات «حميدتي». ويبدو من أجندة المؤتمر، سعي التحالف إلى تشكيل مظلّة أوسع لمقاربة الأزمة في السودان بعيداً من جانبها العسكري - الأمني، فيما يراهن المشاركون فيه على أن توفّر تلك المقاربة، آلية لجذب قدْر من التعهّدات المالية التي طُرحت في مؤتمر باريس الأخير، في ظلّ تفاقم الأوضاع الإنسانية في البلاد إلى مستويات غير مسبوقة. وأما صياغة الأجندة لبند «ترتيبات ما بعد الحرب»، فتبدو مستعجلة، وخصوصاً مع توقّع انفلات المواجهات في جبهات جديدة.

البرهان و«الحلّ الروسي»؟
في مسعى إلى الفكاك من استقطابات القوى الدولية في الأزمة السودانية، أعلن الجيش السوداني، على لسان نائب قائده ياسر العطا، في 25 الجاري، عزمه الحصول على أسلحة روسية، في مقابل السماح لموسكو بإقامة قاعدة «وقود عسكرية» (مركز لوجيستي) على ساحل البحر الأحمر، على أن يصل الوفد السوداني المكلّف بمناقشة «الصفقة» إلى روسيا خلال الأيام القليلة المقبلة، «لوضع اللمسات النهائية» عليها. وجاء الإعلان عن تأسيس المركز المذكور، والذي حرص العطا على التوضيح أنه «ليس قاعدة عسكرية»، بعد أقلّ من شهر من اللقاء الذي جمع نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، إلى البرهان في الخرطوم. وتكشف تصريحات العطا، التي تتّسق مع معلومات عن ميل الخرطوم إلى تبنّي مقاربات راديكالية في سياساتها الخارجية لمواجهة «حميدتي»، عن عودة الجيش إلى تبنّي «خيار روسيا»، في استنساخ لمحاولة الرئيس المعزول، عمر البشير، تمتين علاقاته بموسكو قبل أشهر من سقوطه.
وبدا واضحاً انفتاح الروس على مساعي البرهان (وافق الأخير، في شباط، على مشروع بناء قاعدة بحرية روسية على سواحل السودان)، عبر تعهُّد موسكو بإمداد الجيش بكميات ضخمة من الأسلحة، يأمل الأخير أن تسهم في تغيير ميزان القوى في الحرب الدائرة لمصلحته. لكن، تظلّ لتلك الخطوة حساباتها الحرجة جداً في ضوء الحساسية الغربية البالغة إزاء أي وجود روسي في حوض البحر الأحمر، وما سيعنيه حضور موسكو من نهاية رسمية لـ«منصة جدة» والتنسيق الأميركي - السعودي الذي يتم عبرها، فضلاً عن تعقيدات المواقف الإقليمية، ولا سيّما على ضفة القاهرة (الداعم الأكبر لـ«مجلس السيادة»). كما أنه يصعب اعتبار خطوة البرهان وفريقه «إستراتيجية»، وخصوصاً عند مقارنتها بخطوات سابقة من قبيل استعانته («وول ستريت جورنال»، آذار 2024) بعناصر عسكرية من أوكرانيا «لمواجهة عناصر الدعم السريع الذين كانت تدعمهم شركة فاغنر» الروسية.

خلاصة
تنفتح سيناريوات الأزمة في السودان شيئاً فشيئاً على سيناريو التدويل؛ ثم فإنه لا تُتوقّع تسوية قريبة لها إلا عبر المعارك اليومية على الأرض، والتي يراهن الجيش الآن على قلب معادلتها بفعل الدعم العسكري الروسي المرتقب (كما يتّضح من مقارنته بنماذج سابقة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو). لكن يظلّ ذلك المسار محكوماً بردود فعل السعودية والولايات المتحدة (مع التهميش المتزايد لموقف مصر) اللتين تمتلكان أوراقاً ضاغطة على «مجلس السيادة» والجيش نفسه، ولا تستعجلان التوصّل إلى حلّ، وفقاً لما يدل عليه خواء «منصة جدة» منذ إطلاقها.