تونس | لم تتّضح، بعد مضيّ أسبوعين على قرارات الرئيس التونسي، قيس سعيد، نيّات هذا الأخير، ولا حتى خطواته للمرحلة المقبلة، على رغم الوعود بقرب الإفراج عن خريطة للطريق، تعبّر عمّا سمّاه الرئيس «مشروعية شعبية»، فيما تبرز مؤشرات تراجع في الحماسة لهذه القرارات «الاستثنائية». لكن الاستثناء الذي يخشى كثيرون أن يتحوّل إلى قاعدة، قد يجلب معه تغييرات تصبح مهمّة استئصال الأحزاب المتغلغلة في السلطة، وعلى رأسها حركة «النهضة»، في صلبها، بعدما انحصرت المعركة بينها وبين رئاسة الجمهورية، التي تبدو سائرة في اتجاه وضع «دستور مؤقت» تمهيداً لتعديله
في الأسبوع الثاني من انطلاق العمل بـ«التدابير الاستثنائية» في تونس، لا تزال الكفّة راجحة لمصلحة الرئيس قيس سعيد، على رغم شحّ المعطيات عمّا ينوي فعله أو الخطوات التي يعتزم السير بها، باستثناء تلك التي يتمّ الإعلان عنها بعد مكالماته مع نظرائه من رؤساء الدول، أو عند لقائه بمبعوثيهم. وفي حدود المعلومات المتوافرة راهناً، يتبيّن انصباب اهتمام سعيد وفريقه على التخفيف من حدّة الأزمتَين الصحية والاقتصادية على حياة التونسيين، فيما يجري توازياً إعداد «خريطة طريق» ليُعلَن عنها قريباً - على رغم أن فترة إعدادها استطالت كثيراً -، بحسب ما ورد في بلاغ صادر عن الرئاسة في السابع من آب الجاري. ويستدعي استعمال الرئيس لعبارة «خريطة طريق تعبّر عن المشروعية الشعبية» كما ورد في البلاغ نفسه توقّفاً عنده. فهي عبارة وصفها أستاذ القانون الدستوري، سليم اللغماني، بالحدّ الذي يقف عنده القانون، لتتكلّم السياسة. ويعني ذلك، الذهاب نحو حلّ سياسي بدل النص الدستوري، يعيد المؤسّسات المجمّدة إلى عملها مع مراعاة الإرادة الشعبية، والتي تصبّ بنسبة كبيرة اليوم في اتجاه إنهاء عمل البرلمان وكفّ يد الأحزاب السياسية التي تغلغلت في مفاصل الدولة واستنزفتها.
ويبدو أن سعيد ماضٍ في اتجاه تنزيل هذه «المشروعية الشعبية». وقبيل الانتقال إلى خطوات كبيرة كسَنّ «تنظيم للسلطة العمومية» أو «دستور مؤقت» وتعليق العمل بالدستور الحالي، أو الذهاب نحو استفتاء شعبي على تعديله في اتجاه نظام رئاسي بديلاً من البرلماني، ومن ثمّ تعيين الحكومة، عمد سعيد إلى الحفر في مفاصل الدولة لاستئصال الوجود الحزبي في صلبها. وبينما كانت الدولة سابقاً منصهرة مع الحزب الحاكم أيّام الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي، وبدل تحييدها إبّان الثورة، أضحت الإدارات الحكومية والوزارات وحتى وسائل الإعلام العامة فريسة للأحزاب المتناوبة على الحكم، وفي مقدّمتها «النهضة». ولم يَعد خافياً على مراقبي الشأن التونسي، أن المعركة تكاد تنحسر بين قطبَين، هما: رئاسة الجمهورية، وحزب «النهضة». وكما يحمّل قطاع واسع من الشارع التونسي الحركة مسؤولية عشر سنوات من التراجع الاقتصادي واستشراء الفساد والمحسوبية واستغلال النفوذ، يتبنّى سعيد بدوره هذا الرأي، وهو باشر في إطار صلاحياته التي أسندها إلى نفسه بمقتضى الفصل الـ80 من الدستور، تحجيم ذلك الحضور في الإدارة التونسية.
أخفقت «النهضة» في استعطاف المجتمع الدولي وتصوير سعيد «خطراً» على أمن تونس المجتمعي وسلمها الداخلي


تمثّلت بداية تلك الخطوات في قائمة إعفاءات شملت جميع مستشاري رئيس الحكومة المُقال، هشام المشيشي، وهي قائمة وإنْ لم تحتوِ على أسماء منتمية بصفة مباشرة إلى «النهضة»، فإن من بينها مَن اقترح الحزب تعيينه، ومن بينها أيضاً مَن خدم «النهضة» وحلفاءها في البرلمان. وسبق وأن اتُّهمت هذه الأسماء بإذكاء جذوة الخلاف مع الرئيس، بخاصة خلال «معركة أداء اليمين الدستورية» التي رفض خلالها سعيد أداء الوزراء الحاصلين على ثقة البرلمان لليمين الدستورية أمامه حتى يتسنّى لهم مباشرة مهامّهم، وكان دور مستشاري المشيشي خلال الفترة المشار إليها لا تهدئة الخلاف مع رئاسة الجمهورية ونُصح رئيس الحكومة بالتخلّي عن القائمة المرفوضة بدعوى شبهات الفساد التي تحوم حول الأسماء المقترحة، بل دفعوه إلى تهديد الأوّل بالذهاب نحو تطبيق «الإجراء المستحيل»، أي ممارسة الوزراء لمهامّهم من دون أداء اليمين. ولم يغفر ساكن قصر قرطاج، أيضاً، تهميش هذا الطاقم من المستشارين لكلّ مساعيه الدبلوماسية الاقتصادية، وتجاهلهم مواعيد مضروبة مع مسؤولين في دول أجنبية لتوقيع اتفاقات اقتصادية على غرار الاتفاقات مع رئاسة الوزراء المصرية، أو نفي أيّ مجهود له في استجلاب الاستثمار، كما كانت الحال في الاتفاقات مع الرئاسة الليبية.
أما التلاعب الذي جدَّ إبّان إطلاق اليوم المفتوح للتطعيم في 20 و21 تموز، ودفْع مستشاري المشيشي وزارة الصحة إلى هذا الإعلان ثم التنكّر له ورفْض التعاون لتأمين عملية التطعيم، وما نجم عن ذلك من فوضى واحتقان وتفشٍّ للعدوى في وقت تسجّل البلاد أرقاماً قياسية في عدد الإصابات، فقد جعل إعفاء هؤلاء مطلب الشارع التونسي الذي لا يزال يدعو إلى محاسبتهم وملاحقتهم قضائياً. وبعدما أنهى سعيد عمل هذا الفريق، التفت إلى طاقم المحافظين في الولايات الكبرى، وهم ممثّلون عن السلطة المركزية بصلاحيات واسعة. وتضمّنت القائمة المعفاة أسماء زكّتها «النهضة» أو أخرى تمّ تعيينها إبّان تحالفها مع «نداء تونس»، وحافظت على مناصبها لأنها كانت متعاونة مع الحركة، حتى بعدما فقد «نداء تونس» وزنه واختفى من الساحة السياسية. ولكن الضربة الأكثر إيلاماً لـ«النهضة»، كانت منع السفر عن اسمين مهمّين لديها: الأوّل وزير تكنولوجيا الاتصال السابق والقيادي في الحزب أنور معروف، وهو اسم تحوم حوله شبهات فساد واستغلال نفوذ، عدا اتهام الوزارة من قِبَل نشطاء وبرلمانيين، خلال تولّيه مسؤوليتها، بالتنصّت على السياسيين ومن بينهم الطاقم الرئاسي، والإعلاميين، والنفاذ إلى معطياتهم الشخصية بالتنسيق مع بعض المصالح الأمنية؛ أما الثاني فهو وكيل الجمهورية السابق بشير العكرمي، الذراع القضائية للحزب وفق توصيف «هيئة الدفاع في قضية الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي» له، والذي نُسبت إليه تجاوزات خطيرة من حيث التدخّل في سير أبحاث قضائية جعلته محلّ تتبع من قِبَل المجلس الأعلى للقضاء، صاحب السلطة التأديبية على القضاة.
تلقّت «النهضة» بذلك، أكثر من ضربة موجعة من قِبَل سعيد، بعدما أخفقت في استعطاف "المجتمع الدولي" بوجه سعيد. ويأتي هذا فيما يعيش الحزب اليوم صراعات داخلية حادّة، لم يتمكّن زعيمه، راشد الغنوشي، والمحيطون به من حجبها عن الرأي العام الداخلي أو تطويق «الانفلات» الحاصل في صفوف بعض قياداته الداعية إلى التراجع خطوة إلى الوراء لقراءة الوضع وتحليله وتنزيل الديموقراطية الداخلية أولاً، بإبعاد الغنوشي عن رئاسة الحركة وعقْد مؤتمرها في أقرب الآجال من أجل اختيار قيادة جديدة، بعدما استمات رئيس الحركة لتأجيله مرّات متتالية ونجح في محاولاته تلك. كذلك، تدعو هذه القيادات إلى خفض حدّة العداء المعلنة تجاه الرئيس والتعاون معه في إطار خطّة طريق تعيد المؤسسات إلى سالف عملها في مناخ تشاركي.