تونس | أخيراً صدر (في كانون الأول/ ديسمبر الماضي) «الفرمان» الجمهوري القاضي بتنظيم انتخابات بلدية والمحدد لموعدها الرسمي (الأخبار، العدد ٣٣٩٣). انتخابات تأخرت سبع سنوات لأسباب لا يعلمها إلا الله والراسخون في السلطة. على كل، أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً، كما يقول الفرنسيون. يُفترض أن تكون هذه الانتخابات البلدية موعداً سياسياً مهماً جداً، فهي قبل كل شيء فرصة لإرساء أسس ديموقراطية تشاركية يكون فيها المواطن فاعلاً في صنع القرار، وليس مجرد ورقة تُلقى في صندوق، مرةً كل خمس سنوات. كما أنّ مسألة البلديات تمسّ المواطن عن قرب، فأداؤها ينعكس على حياته اليومية، سلباً أو إيجاباً.
نتائج الانتخابات المحلية عادةً ما تكون مقياس حرارة يُبيِّن درجة رضى المواطنين عن أداء السياسيين في المجالس والمؤسسات السياسية المركزية. دعنا من هذا الكلام النظري الجميل الذي يبدو غريباً عن عاداتنا وتقاليدنا، وخصوصاً عن واقعنا. المزاج العام في تونس ليس متحمساً كثيراً لهذه الانتخابات، ولا يبدو أنّه يُعلّق عليها انتظارات كبيرة. أما الطبقة السياسية، فحساباتها العملية تبدو مختلفة عن الرهانات النظرية لأول انتخابات محليّة حرّة في تاريخ البلاد. برغم ذلك، فطبعاً إنّ «وُجهة السلطة»، ومعرفة الثقل الشعبي، تبقيان من أهم الرهانات، لكنها ليست الوحيدة.

«النهضة»: معركة أخرى لتثبيت الوجود

«محنة الإسلاميين» في تونس (ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته)، وما يحدث للإخوان المسلمين المصريين منذ تموز/ يوليو 2013، واعتصام الرحيل في تونس السنة نفسها، ومحاولة الانقلاب في تركيا سنة 2016، كلّها أمور لا تغيب عن أذهان قادة «حركة النهضة»، وتجعلهم يعيشون خوفاً مزمناً من أي محاولة لاجتثاثهم في تونس. هاجس الإقصاء والعودة إلى السجون والمنافي، أصبح يُسيطر على سياسة الحركة وتحالفاتها. استراتيجية «النهضة» لضمان البقاء لم تعد سراً: الابتعاد مؤقتاً عن الواجهة؛ إبعاد «الصقور» عن مراكز القرار وعن وسائل الإعلام؛ الوجود في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها السياسية حتى وإن كانت المناصب أقل من حجم الحركة.
تقبلُ الحركةُ مثلاً بعدد محدود من الوزراء، رغم أنّ كتلتها البرلمانية هي الأكبر. وهي لا تُعيّن الموظفين الكبار، لكنها ضخت الآلاف من أبنائها في مختلف الإدارات والمستويات. «النهضة» تعتبر الانتخابات البلدية فرصة جديدة لتعزيز وجودها وسلطتها في كامل أرجاء البلاد، وخصوصاً أنّ تونس على طريق تطبيق اللامركزية التي تعطي هامش حركة كبيراً للمستويات المحلية. كما أنّ العدد الكبير للمقاعد البلدية، مقارنة بالبرلمان والحكومة، سوف يسمح للحركة بإرضاء الكثير من أنصارها ومتملقيها الذين لم تجد لهم أماكن في قوائمها الانتخابية السابقة. الوجود بكثافة في المجالس البلدية سوف يُؤمِّن لـ«النهضة» أيضاً، فرصة لتدريب كوادرها المتوسطة والصغرى على الحكم وإدارة المناصب.

«النداء»: رص الصفوف والتثبيت

«نداء تونس»، أو قُل الاسم التجاري الجديد للحزب الحاكم القديم، يعتبر الفوز بالانتخابات البلدية فرصة ذهبية لتسجيل هدف رابع بعد الثلاثية التي حققها عقب انتخابات 2014: رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة ورئاسة مجلس نواب الشعب. رباعية تعيدُ له «مجده» وتبسط هيمنته من جديد في مختلف مناطق البلاد.

«نداء تونس»، أو قُل الاسم التجاري الجديد للحزب الحاكم القديم

الندائيون يعلمون جيداً إمكانات الاستقطاب والتشبيك الهائلة التي تسمح لها بالسيطرة على المجالس البلدية. وهم يعون جيداً أنّ اللامركزية قد تخلق «أبواب رزق» جديدة نظراً إلى أنّها ستمكن الجماعات المحلية من استقلالية مالية كبيرة، وستُطلق يدها في مجال عقد الصفقات وإبرام العقود مع المقاولين والمستثمرين الخواص. تشكيل القوائم الانتخابية هو أيضاً فرصة لإعادة الزخم حول الحزب وترضية الغاضبين الذين لم يُسعفهم الحظ في المرات السابقة. في حالة فوز «النداء» بأغلبية ساحقة، فإنّ ذلك سيمكنه من رص صفوفه من جديد وترميم تصدعاته بعدما كثُرت شقوقه، كما الانشقاقات عنه.
هو فوز (إذا حصل)، من شأنه جعل الكثير من الأبناء الضالين يُفكرون في العودة إلى حضن حزب كبير والمراهنة عليه من جديد في الانتخابات النيابية المرتقبة في 2019.

أحزاب الوسط: جرعة أوكسيجين

نحن نتحدث هنا عن عشرات الأحزاب. منها الذي تأسس بعد الثورة، ومنها القديم. منها الذي انشق عن «النداء»، و منها الذي انشق عن أحزاب «الترويكا»، ومنها أيضاً من انشق عن أحزاب هي نفسها «منشقة». منها المُشارك في حكومة «الوحدة الوطنية»، ومنها المعارض لها. أحزاب «رمادية» تتغطى بالوسط والوسطية، حتى لا تُحسب على اليمين أو اليسار. أغلبها يدخل الانتخابات أملاً بإعادة الروح لهياكله وتحريك المشهد السياسي الراكد الذي لا يفسح لها مجالاً: سيطرة ثنائي «النهضة والنداء» على الحكم، واستئثار «الجبهة الشعبية» بدور المعارضة. هي تبحث عن شهادة حضور في الحياة السياسية تُمكّنها من تسويق نفسها كبديل للأحزاب الحاكمة «الفاشلة» وللمعارضة «المتطرفة». كما أنّ فوز هذه الأحزاب ببعض المجالس قد يُمكّنها من تحسين شروط التفاوض، سواء مع التحالف الحاكم لنيل مناصب حكومية، أو عند تشكيل قوائم ائتلافية مع أحزاب أخرى في الانتخابات التشريعية المقبلة.

اليسار: معجزة جديدة؟

طبعاً، نحن لا نتحدث هنا عن اليسار «الثوري» الذي يُقاطع كل الانتخابات، ويحرّم المشاركة فيها. إنّما نقصد ائتلاف «الجبهة الشعبية» الذي يُشارك في الانتخابات البلدية، أملاً بتكرار المعجزة التي منحته 15 مقعداً برلمانياً في انتخابات 2014. ولكن لعلّ المشكلة هي في أنّ العوامل التي ساهمت في حصول المعجزة السابقة، لم تعد تنفع اليوم: التاريخ النضالي قبل الثورة؛ التعاطف الشعبي إثر اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي؛ الاستقطاب الحاد ما بين «النهضة» و«النداء»، الخ. تدخُلُ «الجبهة» الانتخابات إذاً، ورأسمالها النيات الحسنة، والأمل بأن ينعكس السخط الشعبي على الحكومة في شكل تصويت لمصلحة المعارضة، ما يُعدِّل قليلاً في موازين القوى السياسية. تحلم «الجبهة» بسيناريو 2014، ولكن الخوف أن تعيش مكوناتها «كابوس 2011» (في ما وُصف حينها بنتائج «الصفر فاصل» في استحقاق انتخابات المجلس التأسيسي).

ختاماً...

لا يُمكن التكهن بالنتائج الدقيقة لهذه الانتخابات وإنْ كانت جلّ المؤشرات تُرجّح فوز الحزبين الأكبر في البلاد بغالبية أكثر من مريحة. قد تحصل اختراقات هنا وهناك، لكن دون مفاجآت كبيرة. من المستبعد أيضاً أن تُؤثّر النتائج على الائتلاف الحاكم، وخاصة أنّ «تحالف الدساترة والإخوان» مرتبط بمحاور ومعادلات إقليمية ودولية، أكثر من كونه قراراً محلياً حراً ومنطقياً. الشيء الوحيد الثابت أنّ نسب المشاركة ستكون ضعيفة، أولاً لضعف الوعي الشعبي بأهمية هذه الانتخابات، وثانياً بسبب حالة السخط العام على السياسيين واليأس من إمكانية تغيير الواقع الصعب عبر الصناديق.
أمام كلّ ذلك، قد لا يبقى أمامنا إلا التمني في أن يُحسِّن التونسيون «خطهم» هذه المرة، حتى لا يجدوا أنفسهم يرددون أبيات الشاعر محمود بيرم التونسي:
ما شَرَّدَ النومَ عن جفني القريحِ سوى (...) طيف الخيالِ، خيال المجلسِ البلدي/ إذا الرغيفُ أتى، فالنصفُ آكُلُهُ (...) والنصفُ أتركُه للمجلس البلدي/ وإنْ جلستُ فجَيْبِي لستُ أتركُهُ (...) خوفَ اللصوصِ وخوفَ المجلسِ البلدي/ وما كسوتُ عيالي في الشتاءِ ولا (...) في الصيفِ إلا كسوتُ المجلسَ البلدي/ كَأنَّ أُمّي بَلَّ اللهُ تُربتها (...) أوصَتْ فقالت: أخوك المجلس البلدي