بغداد | يمكن القول إن العراق الآن، لم يعد الحاضنة الحقيقية للأقليات، مثلما كان سابقاً. فهجرة المسيحيين منه تزداد بسرعة، أما الأقليات الأخرى، فلم يعد لها مكان بين القوميات والمذاهب الكبيرة. الإيزيديون كانت لهم حصة من المأساة التي لحقت بالعراق بعد العاشر من حزيران 2014، كما كانت مثلها للشبكة. هكذا هي الحال مع الفئات الأخرى، غير «الشيعة» و«السنّة» و«الأكراد».في محافظة نينوى، ومركزها مدينة الموصل، هناك صراع كبير وطويل، بين العرب والأكراد، حتى الجارة الشمالية للعراق، تركيا، تُريد إخضاع هذه المدينة ولو سياسياً لإرادتها. هذا حلم الإمبراطورية العثمانية الأزلي.

يوجد صراع أيضاً في مدينة النبي يونس (الموصل)، قضاء تلعفر، الذي تسكنه غالبية «شيعية»، منتمية إلى القومية التركمانية، وهي ثالث قومية في العراق، بعد العربية والكردية... وكذلك في قضاء تلكيف، الذي يقطنه المسيحيون الكلدان.
قضاء سنجار، يسكنه الإيزيديون. شهد معقل أتباع هذه الديانة، عملية نزوح كبيرة، مع احتلال «داعش» لمدينة الموصل. ولم يكتف التنظيم بذلك، فخطف وقتل الآلاف منهم.
ناشط إيزيدي مقيم في أربيل، رفض الكشف عن اسمه، يقول لـ«الأخبار»، إن «الذي حدث للإيزيديين كان مخططاً له منذ عام 2007، عندما قُتل وجُرح أكثر من 800 إيزيدي بتفجيرات ناحية القحطانية». ويضيف: «نحن نعرف كل شيء، لكننا نخشى الحديث، هناك من يستهدفنا في أي مكان، ورئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، باعنا لداعش، وهذا جزء من مخطط لإفراغ العراق من الإيزيديين، خاصة أن هناك عمليات كبيرة لشراء منازلنا».
بغداد ستظل القلعة الأخيرة التي تحدد شكل النظام السياسي الذي يحكم البلاد في المستقبل

أما ديالى، وهي المحافظة التي تُشكل عراقاً صغيراً لما فيها من تنوع ديني وقومي ومذهبي، فإنها أيضاً هدف للمتصارعين، لأن العرب بشقيهم «الشيعي» و«السني» يوجدون فيها، كذلك يسكنها «أكراد سُنة وشيعة»، وفيها أقلية تركمانية. مراحل الصراع في هذه المنطقة تأخذ مديات أبعد.
يقول الباحث الاجتماعي، سعيد كريم، لـ«الأخبار»، إن «هناك من استغل الحرب ضد داعش، وسعى إلى إحداث تغيير ديموغرافي، خاصة في المناطق القريبة من إقليم كردستان العراق».
لكن النائب عن «ائتلاف متحدون»، رعد الدهلكي، يقول، في تصريح صحافي، إن «القوات الأمنية أجرت بمساعدة المليشيات تغييراً ديموغرافياً في محافظة ديالى، وقامت بتهجير العديد من المواطنين على أساس طائفي». ولا يتفق تصريح النائب مع ما ذهب إليه المتحدث باسم «الحشد الشعبي»، كريم النوري، الذي يشير إلى «وجود رغبات سياسية بتشويه صورة القوات الأمنية والحشد الشعبي، وتتهمها على أساس محاولة إحداث تغيير ديموغرافي».
ويضيف النوري لـ«الأخبار» أن «دخول الحشد الشعبي للمناطق السُّنية لا يعني أنه سيبقى فيها... نحن نحررها ليتسلم أبناء تلك المناطق والقوات الأمنية عملية مسك الأرض، ولم نعمل على التغيير الديموغرافي».
وفي بغداد... كذلك جاء الحديث عن احتمالية حدوث تغيير ديموغرافي، خاصة أن أطراف العاصمة (حزام بغداد)، توجد فيها عشائر «سُنية».
وزارة التخطيط هي الأخرى، حذّرت من حصول تغيير ديموغرافي في المناطق التي شهدت نزوحاً واسعاً للأهالي، سواء في نينوى أو صلاح الدين أو ديالى وغيرها من المحافظات.
كذلك لم تختلف الحال مع القومية التركمانية، التي يقول بشأنها رئيس «الجبهة التركمانية» في مجلس النواب، أرشد الصالحي، إنها «هدف لبعض الجهات لطمس هويتها، وإحداث تغيير ديموغرافي في مناطق وجودها».
في مقلب آخر، أصدر، في وقت سابق، مجلس محافظة واسط (جنوبي العراق)، قراراً منع بموجبه بيع العقارات والأراضي للعائلات النازحة التي اتخذت من مناطق المحافظة سكناً مؤقتاً لها. كانت تخشى المحافظة من حدوث أي تغيير ديموغرافي إثر بقاء العوائل النازحة فيها.
أما الأكراد الراغبون بضم الموصل وكركوك إلى إقليمهم، فلم يخفوا شيئاً عن أمنياتهم، وهذا ما أكده في تصريح صحافي، رئيس حكومة الإقليم، نيجرفان البرزاني، حين قال: «إذا اعتقدنا أن العراق يمكن أن يعود كما كان عليه قبل الموصل، فلا أظن أن ذلك سيحصل، هذا شبه مستحيل».
كانت رسالة البرزاني واضحة: المناطق التي تُحررها «البشمركة»، لا يمكن تركها لاحقاً، لا للحكومة الاتحادية ولا لأي قوة أخرى. هم يريدون البقاء فيها وضمها للإقليم، هكذا كان يُشير رئيس حكومة كردستان العراق... ليتلاقى بذلك مع عدة تصريحات أطلقها رئيس الإقليم مسعود البرزاني.
وفي بيان صدر سابقاً، عن رجال دين مسيحيين، قالوا إن «مناطقهم في سهل نينوى (القريبة مناطق النفوذ الكردي) تتعرض لتغيير ديموغرافي، وهناك من عمل على هذا الشيء، ووزّع أراضي وممتلكات، مقابل خلق مجتمع آخر يفوقنا كسكان أصليين». وأكد البيان أن الشعب في تلك المنطقة «أصبح اليوم مهدداً في وجوده وحقوقه، ولا سيما أن السلطات الحكومية والأطراف السياسية عموماً لا تتعامل بجدية مع الحلول».
الناشط في شؤون الأقليات، محمد الشبكي، يقول لـ«الأخبار» إنه «بعد عام 2004 وُضع برنامج لتصفير الأقليات في الموصل، ضمن مراحل، نتج منها ترحيلهم إلى خارج المدينة، كمحطة أولى. كان النزاع مثلما برز حينها صراعاً كردياً ـ عربياً حول الموصل. دخلت البشمركة إلى نهاية الحد الفاصل بين الساحل الأيمن والأيسر من المدينة عند نهر دجلة وأصبحت منذ ذلك الحين منطقة نفوذ كردية وانتشرت مقارّ الأحزاب الكردية في عموم منطقة الساحل الأيسر من خارج المدينة وداخلها، بالإضافة إلى سيطرة البشمركة على 16 وحدة إدارية حول المدينة».
ويضيف أنّ «هذه الصورة جعلت نينوى في وضع هشّ أمنياً ومسيطراً عليه من قبل الأحزاب الكردية التي كانت تكسب ثلث أصوات الموصل، ومن مجموع 37 عضواً كان دائماً لها من 12 إلى 15 مقعداً جعلت مجلس المحافظة رهيناً لها والمحافظ موظفاً بيدهم». ويشير إلى أن «جميع القرارات السياسية كانت كردية لغاية 2009. وبعد انتخابات مجالس المحافظات حينها حصلت قائمة الحدباء بزعامة اثيل النجيفي الذي كان نداً للأكراد وكانت شعاراته الانتخابية إخراج الأكراد من نينوى وهوية نينوى العربية وحصل على 16 مقعداً، لكن بعد سنتين تغير الموقف العربي داخل الموصل بعد تدخل الأتراك في الموضوع من أجل الضغط على حكومة نوري المالكي».
ازدادت مخاوف الأقليات بصورة كبيرة، مع عدم وجود طمأنة كردية واضحة لهم أو تدخل حكومي لإنقاذ الوضع، حيث بقيت مناطق سنجار وتلعفر لم يدخلها «داعش» بعد.
وبحلول يوم 25 حزيران 2014، سقط قضاء تلعفر وبعدها قضاء سنجار بسبعة أيام. هنا دق ناقوس الخطر بالرغم من وصول تعزيزات لقوات «البشمركة».
نزح أول الأمر المسيحيون في منطقة الحمدانية، وبعدها الإيزيديون في بعشيقة، أما الشبك فانتظروا اللحظات الأخيرة وسط طمأنات كردية بعدم سقوط مناطقهم، وفي السابع من آب 2014، وتحديداً في الحادية عشر ليلاً، شاهد السكان سيارات «البشمركة» وهي تسير من دون تشغيل إضاءة، وانسحبت خلال أقل من نصف ساعة كل القوات من حزام نينوى إلى محاور الخازر وعقرة والفائدة.
نزح خلال ساعات أكثر من 180 ألف شخص، في وقت لم تطلق فيه «البشمركة» أية طلقة ولم يحدث ليلتها أية معركة، بحسب شهود عيان.
بعد آب 2014، توقفت «داعش» عند حدود سنة 1991 أي الخط الأزرق الذي فرضه مجلس الأمن الدولي كمنطقة حظر طيران وحماية دولية للأكراد، وتم إخراج كل الأقليات من محافظة نينوى، وبهذا أصبحت من دون أقليات لأول مرة في تاريخها.
الخبير بشؤون الأقليات في العراق، وعضو المجلس العراقي لحوار الأديان، سعد سلوم، يقرأ ما حصل في الموصل في سياق دورة عنف تتكرر كل أربع سنوات استهدفت خلق مناطق صافية عرقياً ودينياً وطائفياً، حيث يقول إن «احتلال الموصل يعد الحلقة الأخيرة في مسلسل إعادة ترسيم ديموغرافية للعراق وفق المحدد الإثنوطائفي، وإعادة الترسيم ضرورية لأي خطة لتقسيم العراق إلى جزر إثنية منعزلة».
ويضيف سلوم: «بدأت الخطة بتحطيم الثقة الاجتماعية أفقياً بين المكونات والثقة السياسية عمودياً بين الفرد والنظام السياسي، ففي عام ٢٠٠٦ بعد تفجيرات سامراء انطلق عنف دموي استهدف الثقة داخل مكونات الهوية العربية الإسلامية، وأعاد ترسيم بغداد ومناطق أخرى طائفياً بين الشيعة والسنة، ثم جاءت جريمة كنيسة سيد النجاة ٢٠١٠ لتستهدف الثقة بين المسلمين والمسيحيين، إذ شهدت بغداد بعدها أكبر هجرة لمسيحييها في تاريخ العراق المعاصر».
ويتابع سلوم: «في حزيران ٢٠١٤ استُهدف آخر معقل للتعددية في العراق من خلال تسونامي داعش الذي جرف التنوع في مناطق سهل نينوى، حينها بدأت تنكشف مخططات تقسيم البلاد وأخذ دعاة التقسيم يعلنون ما كانوا يضمرونه في الأعوام السابقة».
وحول مستقبل التعددية في العراق، يرى الباحث في شؤون الأقليات، أن «بغداد ستظل القلعة الأخيرة التي تحدد شكل النظام السياسي الذي يحكم البلاد في المستقبل وهويته، فهي منطقة المعركة الأخيرة التي يراد منها الاحتفاظ بمركز رمزي لا يتعدى دوره التنسيق بين الأقاليم وتوزيع الثروة والتمثيل الدبلوماسي للبلاد.