يتفاعل المخيّم ثقافيّاً مع الأحداث في غزّة، كالتفاعل الشبابي والاجتماعي والسياسي عادة، ومن هذا التفاعل الثقافي الطبيعي، حضور المثقفين والأنشطة الثقافية على المشهد العام إلى الساحة الثقافية في المخيم. لا تختلف كثيراً مخيمات لبنان وأهلها عن المخيمات والمدن في غزّة، شكل المخيم وأزقّته، ومعاناته اليومية بأنواعها، واللاجئون هم اللاجئون. الاختلاف الوحيد في الجغرافيا، إنما الروح واحدة في الشعب الواحد. كما أن المقاومة واحدة، بتعدد وسائلها وأدواتها المتنوعة، من المقاومة المسلحة إلى المقاومة الإعلامية، ثمّ المقاومة الثقافية التي تأتي جزءاً لا يتجزأ من الوسائل المتعددة من أشكال المقاومة.
ومن تفاصيل هذا التفاعل الثقافي بين المخيم وغزّة، المستمر منذ السابع من تشرين الأول العام الماضي، الكثير من الفعاليات الثقافية المؤيدة للمقاومة، وقد كان لها أثرها وفعاليتها إلى جانب التفاعل الاجتماعي والخيري والسياسي، ومنها: الأمسيات الشعريّة، والندوات الفكريّة والثقافية، ومعارض الرسم والكتب والجداريّات على جدران المخيم. مثلاً، في مخيم نهر البارد، كنموذج، قام مركز «زاوية رؤية الثقافية»، وهو مبادرة شبابية، بإقامة معرض كتاب حمل عنوان «الرواية الفلسطينية وسرديّات الأجيال»، وضمن الفعاليات جرت لقاءات شبابية، ومعرض للمكتبات الفلسطينية واللبنانية في الشمال اللبناني، وعرض صور مع سير ذاتية للمبدعين الفلسطينيين، كـ غسان كنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم وإدوارد سعيد ومريد البرغوثي وفدوى طوقان وناجي العلي.
كما بادر الشباب إلى عقد سلسلة محاضرات عن فلسطين تحت عناوين مختلفة، منها: «الدور الثقافي الشبابي في المعركة». وعلى هذا المنوال، جرت لقاءات جمعت الجدّات الفلسطينيات من مواليد ما قبل النكبة مع أطفال المخيم، قدّمن خلاله حكايات وسرديات عن فلسطين، وعن حياتهن في المخيمات وعن المقاومة. أيضاً قام الرسام الشاب وسام رضا من مخيم نهر البارد، برسم العديد من الجداريّات في المخيم، عكست رسوماته صورة المقاومة ومعانيها ورمزياتها المختلفة.
أمّا على صعيد التجارب الثقافية للمثقفين والشعراء والكتّاب في المخيم، فقد قام الشعراء بإصدار مجموعات شعرية جديدة، كمجموعة «كأنكِ غزة» للشاعر الفلسطيني مروان الخطيب، ومجموعة «غربة الشفق» للشاعر محمد موح، تمحورت قصائد المجموعتين حول غزة وأهلها والمقاومة في فلسطين.
لا يتوقف التفاعل الثقافي مع فلسطين في المخيم، ولا سيما في هذه المرحلة، وعند جميع الشرائح. قبل مدة قصيرة، كنت أمشي في شوارع المخيم، وكانت الأناشيد الوطنية الحديثة والقديمة، تصدح من شرفات رياض الأطفال، والأطفال ينشدون معها، منها تلك التي ظهرت خلال العدوان على غزّة كـ «معلش كلو فدا فلسطين» و«النشيد الوطني الفلسطيني» وغيرهما. وفي جولة بسيطة في المخيم، رأيتُ البنات يرتدين الأثواب التراثية الفلسطينية المطرّزة، وقد أصبح الزي شائعاً في المخيم بكثرة، كما أنني يلاحظ أخيراً استخدام الناس في المخيم لآنيات وتحف عليها رسومات، أو أبيات شعرية لمحمود درويش: «على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة» و«فلسطين أمّ البدايات وأمّ النهايات» و«طوفان الأقصى». واللافت أيضاً، الاهتمام والتفاعل مع الروايات والمكتبات التي تحتوي كتباً عن فلسطين، فقد قام بعض الشباب بإطلاق مبادرة ثقافية بعنوان «مكتبات في المحلّات... اعرف عن فلسطين» قاموا بوضع صناديق في المحالّ التجارية والمقاهي، فيها كتب عن فلسطين، كي يقرأها الشباب. وبطبيعة الحال، لم تقتصر فعاليات مخيم نهر البارد، مثالنا ها هنا، على أهالي المخيم، فأقيمت أمسية شعرية لـ«الملتقى الأدبي الثقافي الفلسطيني» في مكتبة وقاعة «كشافة يافا» في المخيم المذكور، شارك فيها شعراء من مختلف المخيمات الفلسطينية في لبنان.
تساهم هذه الفعاليات الثقافية بتشكّل الوعي والبيئة الثقافية لدى أبناء المخيم من مختلف الأعمار. فهي من جانب مساحة مفتوحة للتعبير عن المشاعر، وصقل المواهب الثقافية والطاقات الإبداعية، ومن جانب آخر تقام دعماً وتفاعلاً مع غزّة، وضد الإبادة الجماعيّة التي يشنّها العدو الصهيوني بحق شعبنا الفلسطيني. كما أنها تؤكد على الذاكرة الجمعية للشعب، ضمن معركة الدفاع عن الرواية الفلسطينية الحقيقية، فالمعركة ليست معركة التحرير بالسلاح فقط، بل إنها، أيضاً، معركة سرديّة وتاريخ وحقّ في الأرض، إنها جوهر الصراع القائم.
إنّ التفاعل الثقافي بين المخيّم في لبنان وغزة، جزء من المعركة، وامتداد طبيعي بين المنافي والشتات والمخيّمات وبين الوطن. وبغضّ النظر عن شكل هذا التفاعل، فالمهم الغاية، فلا فرق بين الفنون بشتّى أنواعها، فكلُّ مَن كتب أو رسمَ أو استخدم التراث والصوت والنشيد، تفاعله مؤثّر في الناس، وفي الإعلام الذي ينقل ويغطي هذه الفعاليّات، ويجعلها أكثر انتشاراً، في سبيل وصول الرسالة والهدف والغاية إلى البعيد، خلف الأسلاك والحدود والمعابر، حيث يربط بين الخارج والداخل، بين المخيّم وغزّة.