يوم الثلاثاء الماضي، استشهد ضياء حمارشة (27 عاماً)، من جنين، بعد تنفيذه عملية في «بني براك» أسفرت عن مقتل 5 مستوطنين، ليخرج رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ويدين العملية بلا استهياب أو احترام للشعب الفلسطيني وتضحياته.تناقلت خبر العملية الصحفُ والمواقع الإلكترونية والقنوات التلفزيونية، وقبل يومين حلّت ذكرى يوم الأرض، اليوم الذي يتذكّره الفلسطينيون منذ الثلاثين من آذار عام 1976. ولربما بعد هذه السنين لم تعد الذكرى مرتبطة فقط باستشهاد 6 فلسطينيين خلال مواجهات اندلعت في الأراضي المحتلة عام 1948 بعد إعلان الإضراب العام والمسيرات الشعبية في مناطق الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل الفلسطيني رفضاً لقيام الاحتلال بمصادرة نحو 21 ألف دونم لتنفيذ مشروع «تطوير الجليل» الذي يمثّل حالة تهويد كاملة للمنطقة.
بعد تلك السنوات غدت الذكرى تكريساً لوعي الأرض، فإضافة إلى ما تشكّله فلسطين من قرى ومدن يحنّ الفلسطيني للعودة إليها، دخلت لفظة الأرض العامة الشاملة في قاموس التراجيدية الفلسطينية معمّدة هذه المرة بدم فلسطيني صافٍ من أجل الأرض، وقصائد خلّدت اليوم والدم، وتخلّدت بدورها في وعي الفلسطينيين والعرب:
«خديجة لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
سنطردهم من هواء الجليل» (محمود درويش - قصيدة الأرض).
خلّد هذا اليومَ فلسطينيون، كان من الممكن أن يكونوا لاجئين مثل نحو 700 ألف فلسطيني طُردوا من أراضيهم عام 1948، إلا أنهم تمكنوا، من طُردوا ومن بقوا، أن يمارسوا نقيض الطرد، وأن يمارسوا أيضاً، الطرد المستمر للاحتلال، ومع استعادة بسيطة لشريط الذاكرة الفلسطينية، سيبدو الطرد الفلسطيني للاحتلال جلياً. فمن قبل إعلان الكيان، واجه الفلسطينيون الطغيان البريطاني والصهيوني، ومن بعد قيام «الدولة» فوق فلسطين، استمرت المواجهة، سواء في الداخل أو الخارج، حتى اليوم، وبأشكال وأدوات مختلفة، يصعب تلخيصها هنا.
الشعب الرافض لاحتلاله، صاحب الحول والقوة، لا يمتلك حتى رفاهية القرار، كأن يقرر الاستسلام، فالاحتلال ما زال موجوداً على الأرض وآثاره ممتدة على كل الفلسطينيين، فقدر الشعب الفلسطيني أن يواجه ويقاوم ويستمر، كقدر أي مضطهد حول العالم، عانى أو يعاني من ظلم (الصهيوني رديف للظلم) أو حكم الرجل الأبيض في جنوب أفريقيا أو انتفاضات الشعوب العربية ضد الأنظمة والحكام.
فالمقاومة التي يمارسها الشعب الفلسطيني المستعمَر بالأشكال المختلفة، والتي يمارسها منذ نحو مئة عام بلا كلل أو ملل، وبلا دعم، وبلا أمل أو اعتماد على أحد، تشكّل رافعة لأي مشروع تحرري في المنطقة والعالم. وبلا فضل على الشعب المستعمَر، بل بفضل وأفضلية للشعب الفلسطيني الذي فعلياً ينهي استعمار أرضه وبقية متبقّية من أراضي الآخرين، لذا، فإن لم تكن فلسطين مقاومة لمحتلها فماذا تكون؟!
خلَّد هذا اليومَ فلسطينيون، كان من الممكن أن يكونوا لاجئين مثل نحو 700 ألف فلسطيني طُردوا من أراضيهم عام 1948


وهبّة الداخل عام 1976، التي لم تكن الأولى، ولم تكن الأخيرة، علامة من علامات التحرر الوطني والإنساني، وفي الذاكرة القريبة فقط، تظاهرات ومواجهات الداخل في أيار/مايو الماضي بالتزامن مع معركة «سيف القدس» التي ابتدأت في حي الشيخ الجراح وباب العمود، وفي الذاكرة أيضاً التظاهرات الكبرى التي حصلت لإسقاط مخطط برافر، وغيرها وغيرها، كلها علامات ومؤشرات وطرق إلى عملية التحرر والتحرير الدؤوب والصبور.
هذه الطريق واضحة لا لبس فيها، يتخللها عائق يحتاج إلى إخلاص فلسطيني عميق لتجنب آثاره الكارثية على الشعب الفلسطيني وقضيته، فمآسٍ كالاقتتال الداخلي الفلسطيني في لبنان في عامَي 1983 و1987، والانقسام بين فتح وحماس عام 2007، تجعل أي فلسطيني متردد في الانقضاض على أولي الأمر لئلا يزيد الانقسام انقساماً، وهذا لا يعني في أي حال من الأحوال، الصمت أمام التنازل والتفريط المستمر من قبلهم، وكأن فلسطين أو «فلسطينهم» لهم وحدهم، ولهم وحدهم الحق بتقرير مصيرها على طريقة رئيس السلطة محمود عباس الذي يسأل «هل هي رحلة العودة إلى الوطن؟ أم هي رحلة التوقيع على التنازل عن جزء كبير من الوطن؟ [...] وهل ما سنقوم به سيفتح الباب أمام المستقبل أم يقفل الطريق إليه؟ وهل فرّطنا بحقوق الشعب أم حافظنا على هذه الحقوق» - هذا الكلام جاء في مقدمة كتاب عباس «طريق أوسلو».
على طريق فلسطين ارتقى أكثر من 100 ألف شهيد (إحصاء عام 2019) من الداخل والخارج، ومن دول أخرى ناضل شبابها وبناتها من أجل فلسطين، كل هؤلاء دمعت عيون أهلهم من أجلهم، ومنهم شهيد الثلاثاء الماضي ضياء حمارشة، وشهيد الثلاثاء الذي قبل الماضي محمد أبو القيعان الذي نفّذ أحد غلاة الصهاينة إعدامه علناً متجاوزاً قوانين «دولته» التي يطيب للبعض التغني بقانونها! قانونها الذي صادر ويصادر الأراضي، ويعتقل إدارياً، ويقتل يومياً.
هؤلاء الشهداء وأقرانهم الأحياء في مواجهة هذه «الدولة» حتى التحرير الكامل، هم الطريق والطريقة بلا «برنامج» أو «وثيقة».