كثيرة هي الأسباب التي تجعل من كأس العالم الحدث الأكبر على مستوى البشرية، وأقلاً، بالنسبة لي، فإن مباريات كأس العالم هي آخر ما تبقّى لنا من جمال وحماسة المنافسة الكروية على أرض الملعب. المميّز في هذا الحدث هو تمازج الرياضة والمهارة مع الهويات الوطنية وتمثيل الأمم -ولو من ناحية نظرية- لشعبها ونفسها، لتدخل في تنافس حاد، وبروحية قتالية عالية. هنا، وبمعزل عن السياسة، وبرغم الفرق الهائل في الإمكانيات المادية والتجهيزية، تعمل هذه الروحية، وهذا الانتماء، على محاولة معادلة هذه الكفة المختلة بين فريق أوروبي، مثلاً، وآخر أفريقي. وإذا ما نظرنا بمنظور سياسي، فإن اختلال الكفّة المادية والمالية لأوروبا عن ما سواها مقابل استبسال الفرق الأخرى، هي، وبشكل ما، أحد تمظهرات صراع طبقي بيّن ولو على المستوى المعنوي.
(نهاد علم الدين)

يضع اختلال الكفة المادية والمعنوية كل هوية وطنية عربية، أو جنوبية عموماً، تحت الامتحان. لوالدتي العزيزة نظريّة ترددها علينا منذ الصغر، بقولها «لا تكن منتخباً سعودياً»، وقصدها هنا، الشعور بالخيبة وانعدام المعنويات بمجرّد التعرض لكبوة، كالخسارة لهدف، أو الفشل في امتحان دراسي، أو المنافسة ضد فريق ذي مكانة معنوية عالية، حيث يتكشف هنا حجم ضعف شخصيتك وانهزاميتك ضد الآخر. جاءت نظريتها كرد فعل على الانهزامية التي عصفت بالسعوديين بعد الخسارة من ألمانيا في كأس العالم 2002.
في منافسة كأس العالم، سلاح الفرق الصغيرة هو اللجوء إلى قوتها المعنوية المستقاة من هويتها الوطنية، وإن كانت الهوية الوطنية معدومة أو ضعيفة سرعان ما يتدهور الفريق نحو الانهزامية وخسارة الروح. تختلف المسألة هنا من بلد عربي إلى آخر. مثلاً، وقبل مبارياته المصيرية في كأس العالم، يجمع طاقم المنتخب الجزائري الفريق ليشاهدوا أحد الأفلام التي تتحدّث عن حرب التحرير، أمّا الحالة الخليجية فمميّزة، فهذه الدول-المدن العربية تعاني من عطب لازم وركاكة في الهوية الوطنية، هم بأنفسهم يستشعرونها.
من هنا، يمسي كأس العالم مكان ظهور هذه الهوية بعلمها واسمها على مسرح كأس العالم بشكل يعطيها شيئاً من المصداقية. في الأخير، هي هوية تمثّل نخبة قبلية-طبقية تحكم، أعطاها الاستعمار الغربي بصفته المشكِّل لصيغة العلاقات الدولية في العالم صفةَ الدولة-الأمّة. يكفي هنا تذكّر مشهد نزول الشيخ الكويتي فهد الأحمد لأرضية الملعب، ليوقف المباراة، ويجبر الحكم على إلغاء هدف لمصلحة فرنسا. المشهد التاريخي وطريقة استنفار الشيخ ليسا أبرز شيء، بل إن المشاركة الكويتية في كأس العالم 1982 تزامنت مع الغزو الصهيوني لبيروت واحتلال عاصمة عربية، وهنا تمظهر شرخ انعزال هوية عربية بحالة احتفالية لوصولها إلى كأس العالم، وبما فيه من تسويق لنخبتها الحاكمة وبروزها. والأمر ذاته هو ما يجب التنبه إليه مع انتفاضة الضفة في فلسطين اليوم حيث من النافل الاعتقاد باستغلال العدو للحدث للقيام بخطوات تصعيدية ضد شعبنا الفلسطيني.
الفكرة المركزية، هي ولع الطبقات الحاكمة الخليجية بدخول العولمة، ولأسباب لها علاقة بالنفط والغاز وعمر هذه الدول، فإن هذه الطبقات تدخل للعولمة بصفتها دولة «Globalization-for-state-purposes». قبل رحلتهم إلى قطر، قابل محمد بن سلمان لاعبي المنتخب في حديث عجيب؛ ففي كأس العالم الماضي كانت غاية السعوديين قائمة على بناء وشحذ الهوية الوطنية السعودية عبر استغلال المنتخب للتسويق لها، داخلياً وعالمياً. وهو ما جعل تركي آل الشيخ يضغط على لاعبي المنتخب لأن انتصارهم كان في مصلحة مشروع الأمراء الجدد، وفي هذا الموسم، حرص ابن سلمان على أن يقول بنفسه للاعبين إنها مجرد مشاركة لثلاث مباريات ونرجع والأفضل في المستقبل. لم يتم شحذ المنتخب بعلاقته مع شعبه وجمهوره، ولنقل نشر السعادة على وجوه شباب حواري جدة، بل إن هذه الحواري لم تعد موجودة أصلاً. العلاقة هنا بين التمثيل والمنتخب ليست علاقة بجمهور شعبي بقدر ما هي علاقة بسلطة وحكم طبقات. وهو أمر ليس محصوراً بالمملكة، بطبيعة الحال، بل إن حالة تمثيل منتخب لبرجوازية بلده، لا لحالة وطنية وشعبية، أمر متكرّر الحدوث. في تصفيات كأس العالم، قدّم المنتخب السوري أداء في غاية البطولة حين لم يتوقّع أحد منه شيئاً، وكان دافع اللاعبين صنع البهجة لشعبهم، في تكرار لسيناريو العراق في آسيا 2007، ولكن، وبمجرد ما حاولت البرجوازية السورية تبنّي المنتخب، تم اغتيال روح الفريق. لا روح قتالية في السياسة والعسكر والرياضة كروح تمثيل الغلابة من الناس، واستحضارهم في وعيك، وهنا تتمازج فكرة الهوية الوطنية مع العلاقة الطبقية التي تمثّلها مع كرة القدم.
الأمر نفسه مع مسابقات الأندية الأوروبية، لم يفسد الكرة وروح اللعب للأندية الأوروبية شيء كما أفسدته رؤوس الأموال. وفي رأي غير ذي شعبية، ومع كامل التقدير لميسي، فإن السنين العشر الأخيرة كانت قمّة تحوّل الأندية الرياضية، من ناحية اللعب واللاعبين، إلى أشبه بشركات. ولا أتحدّث هنا عن غرض الأندية جني ومراكمة الأرباح، بل إن مستوى الموارد المادية والهوة فيها قتلا المنافسة، وتحوّلت المسألة إلى بيزنس، فلم يعد لمشهد تقبيل اللاعب لشعار فريقه بعد تسجيله لهدف أي معنى. مسائل كالانتماء للجمهور، أو مدينة النادي وهويتها، كلها تحولّت إلى علاقات مالية. وهنالك شرط مادي للمنافسة الأوروبية بين أندية محدودة تملك المال بشكل قاهر لغيرها، فيتحوّل اللاعبون إلى روبوتات. يمكن تتبّع المسألة إلى عام 2003 مع شراء أبراموفيتش نادي تشيلسي، وأيضاً جشع أسوأ رموز الكرة الأوروبية فالنتينو بيريز في مدريد العام ذاته. وهو ما تطوّر إلى أسوأ حالاته مع دخول الأموال الخليجية القطرية والإماراتية الأندية الأوروبية، تم، حرفياً، اغتيال دوري أبطال أوروبا وكل ذكرياتنا معه، ووصلنا إلى يوم أن جمال المنافسة وعدالتها وروحية الأندية سيجسّدها الدوري الأوروبي، والفرق المتوسطة وجماهيرها بشغفها الحقيقي.
تشابك المواضيع هذا يوصلنا في نهاية المطاف إلى قطر، التي تجسّد كل من مسألة الهوية ورؤوس الأموال، لكن بحجم أكبر وزوايا متعددة، ضمن مشروع متكامل للدولة-القبيلة، محور ارتكازه استضافة كأس العالم.

الدولة كعلامة تسويقية
لو أردنا مقاربةً لقطر ضمن أدبيّات العلاقات الدولية، فستكون كالتالي: دولة صغيرة الحجم لا يمكنها، لقصور في الجغرافيا وعدد السكان، المنافسة على الساحة الدولية بأدوات القوة التقليدية، أي العنف والتهديد باستخدامه. وعليه، تميل الدول الصغيرة إلى البحث عن اختصاص تبدع فيه يمكنها استغلاله كقوة ناعمة. والأمثلة كثير، وعادة ما ترتبط هذه الاختصاصات في أذهاننا بشكل طبيعي، فحين نذكر سويسرا نتذكّر الخدمات المالية، دبي والسياحة، النرويج وتمويل المشاريع الإنسانية، وكوبا والطب والأطباء. انطلاقاً من ذلك، عملت قطر على تكثيف قوتها الناعمة، وفي المجال العربي، بل في ما هو أوسع منه، شكّلت إمبراطورية إعلامية. ولكن، عمود خيمة هذه القوة الناعمة يتمثّل في بناء إمبراطورية رياضية قوامها تمويل ريوع موارد الثروات الطبيعية، ودرة تاج هذه الإمبراطورية استضافة كأس العالم.
توزّعت الاستراتيجية الرياضية-السياسية القطرية هنا على ثلاثة أعمدة، كما تتبعها كل من بول براناغان ودانييل راتشي: استضافة المحافل الرياضية، الاستثمار الرياضي العابر للحدود، والاستفادة من تميّز وجودة ما تقدّمه محلّياً للرياضات والرياضيين.
- من ناحية استضافة المحافل والمسابقات الدولية، عملت قطر على استضافة 30 محفلاً لرياضات مختلفة ما بين عامي 2000 و2023. وبشكل كان أحد أهدافه الأساسية خلق سمعة وخبرة تؤسّس لنجاح ملف ترشيحها لكأس العالم. والآخر، هو الظهور على الخريطة، فهذه الدولة الصغيرة ليست معلومة لبقية الشعوب، خصوصاً الأوروبية، بشكل يدفع النخب القبلية القطرية نحو الهوس بالترويج للذات، فبوابة معرفة العالم لقطر هي عبر ربطها بالرياضة. وهو ما نجحت فيه عبر قفزاتها المتتالية في Country Brand Index. فأحد أبرز دوافع هذا التسويق لقطر كعلامة تجارية، هو إزاحة نفسها عن ظل السعودية، وعبر ذلك، عزل نفسها عن الصورة النمطية للعرب والمسلمين، عبر إشهار الهوية المحلية، والترويج لتمايزها عن الصورة النمطية الاستشراقية، بشكل يختلف فيه موقع العربي من العولمة والقرية الكونية والسوق الاستهلاكية، إن قال هو قطري، بأن يقول إنه سوري أو يمني أو عراقي أو فلسطيني. وفيما صورة العربي في الذهنية المعولمة هي الحروب والإرهاب، صورة القطري هي بذخ الخطوط القطرية ونادي حديقة الأمراء الباريسي.
- أمّا بالنسبة للاستثمارات الرياضية العابرة للحدود، فلا تبدأ من شراء القطريين للقرية الأولمبية للندن 2012، ولا تنتهي بشراء باريس سان جرمان، وعقد صفقات خيالية للحصول على كل من نيمار وإمبابي. كما إن الخطوط القطرية ترعى أكثر من ناد ومسابقة وبشكل يمتد من أستراليا إلى الأرجنتين، بما يشمل الغولف وكرة السلة و«الفورمولا وان». كذلك سيطرة القطريين على الإعلام عبر شبكة «beIN» التي تشمل 60 قناة على امتداد 43 دولة وأكثر من 55 مليون مشترك وفق بيانات عام 2020. وهو ما يعطيها القدرة، لا على إيصال رسائلها وتعريفها لذاتها للعالم فقط، بل المقدرة على التحكم برسائل الآخرين. وهي قدرة تجلّت بشكل واضح في الأزمة الخليجية حين قام السعوديون بقرصنة الشبكة تحت اسم «beOUT» الأمر الذي أدى إلى سلسلة مرافعات قضائية كشّرت فيه القوة الناعمة القطرية عن أنيابها بشكل كاد يكلّف السعوديين دخولهم المتأخر إلى الاستثمارات الرياضية وشراء نادي نيوكاسل الإنكليزي.
توزّعت الاستراتيجية الرياضية-السياسية القطرية، كما تتبعها بول براناغان ودانييل راتشي، على: استضافة المحافل، الاستثمار العابر للحدود، والاستفادة من تميّز وجودة ما تقدّمه محلّياً


- أمّا العمود الثالث للاستراتيجية القطرية، فهو قائم على الاستقطاب المباشر وتوفير الخدمات والحوافز للأندية الرياضية وللرياضيين، ليستخدموا بنيتها التحتية، وعلى وجه الخصوص أكاديمية أسباير، وتحويل قطر للوجهة الأولى لتقديم الخدمات الرياضية. يضاف إلى ذلك استقطاب أبرز اللاعبين الأوروبيين للعب والتدريب في الدوري القطري، من راؤول غونزاليز وبيب غوارديولا وصولاً لتشافي هيرنانديز وغيرهم الكثير.
مكّنت هذه الأعمدة الثلاثة قطر من حجز موقع متقدّم في العالم، ولأن هذه المقاربة من منظور قواعد العلاقات الدولية، فهي تنطلق من مسلّمات وشروط تضيّق فيها العدسة المشهد، متجاوزة نواحي تاريخية وثقافية. إذ تتعامل مع الكيانات السياسية كـ«دولة» بمعناها الحديث، شعب له تاريخ ونظام حكم ضمن حدود سياسية. إلا أنه، في الحالة العربية، هنالك قصور لازم في أي تحليل منطلق من مسلمات العلاقات الدولية، ويعود ذلك إلى عاملين مرتبطين بعلاقة سببية:
الأوّل، هو أن أصل النظام الدولي القائم حالياً وشروطه قامت بالأساس على نقض حقوق العرب، من التقسيم الاعتباطي وفق المصالح الغربية للكيانات السياسية العربية، وصولاً إلى إنشاء كيان استعماري إسرائيلي يستمد شرعيته من النظام الدولي. وعليه، لتشرعن دولةٌ عربية وجودها الدولي، عليها، بدورها، شرعنة الكيان الإسرائيلي.
أمّا العامل الثاني فينطلق من أنه لا يمكن تحليل أي سياسات وطموحات لقطر بمعزل عن بقية الوطن العربي. فقطر تحالف قبلي صغير ذو علم عنابي ضمن مجال سياسي عربي واحد لا يمكنه الهروب من التفاعل معه. لكن ما علاقة هذا بكأس العالم؟

كأس «عالم ليس لنا»
يرى القطريون في كأس العالم، وهم على صواب، كأبرز البوابات لحجز مكان في النظام الدولي الحالي؛ طرد روسيا من كأس العالم هو عقاب لمجرّد محاولتها تغييره بشكل طفيف. وواقع الأمر، وعكس ما يتكرّر، فإنه ليست هنالك معايير مزدوجة بين طرد روسيا وإبقاء كيان العدو، بل إن هذا هو جوهر النظام الدولي. بتعبير آخر: السوق الرأسمالية العالمية. فكأس العالم ليس مجرد حدث رياضي، بل إن عالميّته تنطلق من أنه، وفي كل أربع سنوات، تتمحور كل الشركات العالمية والمحلية وتولّي وجهها شطر مكان واحد لتبيع وتروج لمنتجاتها.
من هنا، لا يكون من الغريب، وبعد سنين من «الأزمة الخليجية»، أن تتوحّد الإمارات والسعودية مع قطر، فكل منها يريد حصة من هذه الكعكة، لنرى اتفاقيات تسهيل سفر بين هذه البلدان للمشجعين وفتح للحدود بعد إغلاقها، وبعد محاربة «beIN» لسنين تتصدّرها اليوم إعلانات إماراتية وشراكات من السعودية. فقد استسلمت نرجسية بقية شيوخ الخليج لأنه، وللاستفادة من حركة رؤوس الأموال التي سيولدها كأس العالم، علينا السير خلف إمارة قطر.
هكذا نفهم كيف عمل القطريون على صنع قوة ناعمة تمكنهم من تنظيم هذا كله. إلا أن الأهم من الحديث عن حسابات مصالح الأمراء والشيوخ هو فهم مسألة أن طموح الأثرياء العرب للدخول في العولمة يستوجب نكران، أو صناعة، وهم التوفيق بين نقيضين؛ حقوق بقية الشعوب العربية، وتحديداً الشعب الفلسطيني، كشعب كان شطب وجوده شرطاً لتأسيس النظام الدولي الحالي، والنقيض الآخر، أن قطر كيان عربي والتعامل مع المجال العربي ورأيه، بل صناعته، وهنا تتقاطع أذرع القوة الناعمة الإعلامية بتلك الرياضية، لمجابهة هذا العبء الثقيل أمام أحلام أثرياء العرب.

(أ ف ب )

التطبيع مع كيان العدو الإسرائيلي هو أحد شروط التمتع بمكانة دولية. ففي حين قرّر الإماراتيون التحرّر من هذا العبء في استضافة «إكسبو 2020» والتطبيع المباشر مع الاحتلال، عمل القطريون على تأسيس مصفوفة متضاربة تمازج بين مخاطبة العرب ومخاطبة المنظومة الدولية؛ تبنّي خطاب كـ«مونديال العرب»، ولو أن السواد الأعظم من الجمهور العربي يصطدم بجدار مالي وقانوني عبر الحاجة إلى فيزا لدخول قطر. بل إن واقعة إلغاء القطريين لبطاقات مئات المشجعين (هيا) لمن اشتروها من العراق واليمن من دون إخطار رسمي عن محاولات حل هذا الإلغاء، تعكس لك موقع الشعبين الدولي مقابل شعوب العالم. فعندما يفكّر عربي ليس بثري بزيارة قطر، فإن الطريقة التي يفكّر فيها هي السفر إلى أوروبا والحصول على جنسية أوروبية، أي بتعبير آخر أن يحصل على اعتراف بأنه مواطن في العالم ثم الذهاب إلى «مونديال العرب».
بطاقة «هيا» هي عبارة عن سمة عبور وامتياز طبقي، فحاملها سيتنقّل بين كل من دبي وقطر والسعودية.
الأمر الآخر، هو إمرار القطريين للتطبيع مع العدو الإسرائيلي، عبر ضخّ رسائل متضاربة، فبدون مبالغة، زيارة الدوحة أسهل للإسرائيليين منها للعرب. ولكن، وعبر الالتجاء لاستنفار قوتها الناعمة، وألوف العرب المنتسبين لشبكة المؤسسات القطرية، أو غير المنتسبين من الطبقات الوسطى العربية.
فعبر القوة الناعمة القطرية، أصبح أمر فاضح ورمزي كانزعاج رجال الأعمال الإسرائيليين المسافرين للدوحة من أن خيار اختيار الدولة في نموذج التقديم الإلكتروني تغيّر من «إسرائيل» إلى «الأراضي الفلسطينية المحتلة» انجازاً يروّج له. بعدها أعلن الصهاينة عن مكتب بعثة تقدم الخدمات القنصلية لـ«الإسرائيليين»، وكذلك رحلات جوية مباشرة من مطار اللد (تل أبيب) إلى الدوحة، وافتتاح استديو تغطية للإعلام الإسرائيلي.
عمل القطريون على الترويج أن اتفاقية التطبيع هذه لمصلحة الفلسطينيين. روجت «الجزيرة» لهاشتاغ «#إسرائيل_تنصاع_لقطر»، حرفياً، وكمثال فاضح على أن الإمبراطورية الإعلامية القطرية من القوة أن تصنع الخبر لا أن تنقله. لم تقف المهزلة هنا، حيث يعلم القطريون أن الفلسطينيين في الضفة ممنوعون من السفر عبر مطار اللد، إلا أنهم حاولوا إخفاء الأمر، بينما صرح ديبلوماسي صهيوني لـ«نيويورك تايمز» بأن التصريح للفلسطينيين للسفر يأخذ أسابيع أو أشهراً. أمّا أحد الديبلوماسيين القطريين فردد ديباجة أن علينا تجنب تسييس كأس العالم، ثم ليناقض ذلك خبر أن الحكومة القطرية تهدد بإلغاء الرحلات الجوية في حال أي تصعيد للعدو في الضفة وغزة، ليعود الأمر أمراً سياسياً لغرض ضخ رسائل متضاربة. حين تتحدّث قطر عن أن الجميع مرحّب بهم في كأس العالم، فالجميع هنا هم الإسرائيليون، كذلك تصريح الخارجية الأميركية أن الرحلات الجوية المباشرة توسّع حرية السفر للجميع، فهنا يتكرّر شطب الفلسطيني من الوجود في بنية العلاقات الدولية.
غرّد أحد مشاهير المغردين القطريين أن الجماهير الإسرائيلية سترفع علَمها، «وهؤلاء قد يرفعون أعلامهم، علينا تجاهل تصرفاتهم والتركيز على إنجاح البطولة، نحن تحت المجهر والإعلام ينتظر أي خطأ، فترة مؤقتة واتْعدّي»، والمسألة هنا، ليست في كون أن صورة أثرياء العرب أمام الإعلام (أي الرجل الأبيض) أهم من كرامتنا الوطنية، بل إن هذه التغريدة والتفاعل الإيجابي الكبير معها، ومع غيرها من التبريرات أو تزييف الوقائع الذي هيمن على تفاعل الجمهور العربي، لهو أمر يستدعي أن نتوقف ونذكّر أن ما نراه ليس سوى جني القطريين لثمار مشروع متكامل لإمرار التطبيع يطبخ على نار هادئة. فالمغردون المبررون ذاتهم اليوم هم مغردو الحملات ضد التطبيع بالأمس، وأن «التطبيع خيانة»، وذلك عندما تبنّت الوسائل الإعلامية القطرية ذلك. فنحن اليوم بحقّ أمام وضع خطير من الاختراق في الوعي الشعبي العربي يصوغه القطريون منذ عقود، وهو ما يستلزم العمل ضده.
بالتأكيد، سيشكل كأس العالم حدثاً احتفالياً سنستمتع بمجرياته جميعاً، لكن، وللأمانة الوطنية لوازم. منها محاولة منع أثرياء العرب في قطر من بناء مجد يكون فيه باقي العرب قرباناً، أن تكون فلسطين فيه قرباناً. فكأس العالم درّة تاج طموحات النخبة القبلية الحاكمة في قطر ودهاؤها السياسي، في تحقيق أحلامهم الطبقية بحجز مكان لهم ولممارستهم للترف في العالم، وصرف المليارات من أموالنا. وعليه، فإن أهم ما يمكننا تذكير أنفسنا وتذكيركم به مرة أخرى، وأنتم تتسمّرون أمام الشاشات، أن عالم أثرياء العرب عالم ليس لنا.