تمّ فكّ أسر الرفيق جوليان أسانج بعد سنين من الملاحقة القضائية من قبل واشنطن، جعلته يمضي وقتاً تحت الإقامة الجبرية، ثمّ طالباً للّجوء في السفارة الإكوادورية في لندن، قبل أن يبيعه الرئيس الإكوادوري الخائن للأمانة، لينين مورينو، ليمضي السنوات الخمس الأخيرة في سجن شديد الحراسة، مهدَّداً بالترحيل إلى الولايات المتّحدة. لن ندخل في الفبركات القانونية التي استخدمها حماة القضاء وسعاة العدالة في الولايات المتّحدة من خلال مأجورين في السويد وبريطانيا، فهذه باتت خلفنا. جوليان أسانج لم يرتكب جرماً ليلاحَق، هو لوحق لأنه كشف جرائم ارتكبها كبار مجرمي عصرنا.كبار المجرمين أنفسهم ما زالوا على نهجهم، وها هم يهدّدوننا اليوم بالتوسّع في حربٍ يقولون إنّهم لن يستطيعوا خلالها إلا الوقوف إلى جانب «إسرائيل»، تماماً كما في صيف عام 2006. لم يكن ليعرف في حينها، إذ إنه لم يكن قد أطلق موقعه بعد، لكنّ جوليان أسانج لعب دوراً كبيراً في كشف خفايا حرب تموز 2006 التي خاضتها «إسرائيل» على لبنان بتواطؤٍ وشراكةٍ وتشجيعٍ عربيٍّ وغربيٍّ ولبنانيٍّ. أسّس أسانج موقع «ويكيليكس» في خريف عام 2006، بهدف استقبال تسريبات تهمّ المجتمع عامةً بحيث تتمّ حماية هويّة المسرّب، وتنشر المعلومات المسرّبة للخير العام. نشر الأسرار التي تهمّ المصلحة العامة جزءٌ تاريخيٌّ من العمل الصحافي. ومن هنا، انطلقت «ويكيليكس»، وانتشرت مجموعة من أسرار الشركات الاستغلالية وملفات فساد محلية وقضايا جعلت من الموقع مرجعاً للتسريبات من دون ملاحقات قانونية تذكر؛ فنشرُ تسريبات تهمّ الشأن العام وحماية مصادرها ممارسات صحافية بامتياز.
إلى أن جاء الخامس من نيسان 2010، ونشرت «ويكيليكس» فيديو مسرّباً من الجيش الأميركي يوثّق جريمة حرب في العراق، حيث يظهر بالصوت والصورة كيف اصطاد جنود في طائرة أباتشي مدنيين على الأرض، بينهم أولاد على مدى 40 دقيقة. هكذا أصبحت «ويكيليكس» اسماً عالمياً وختمت عامها ببدء نشر أكبر تسريبٍ لوثائق ديبلوماسية أميركية. هنا أصبح عمل أسانج الصحافي جريمة وبدأت الحملة على «ويكيليكس». تمكنّت الحكومة الأميركية من كشف هوية من سرّب الوثائق، وسجنت تشيلسي مانينغ التي أرادت للعالم أن يرى جرائم جيشها. لم تكن المنظّمة التي أسّسها أسانج قادرة على التعامل مع ربع مليون وثيقة تحمل معلومات قد تكون حسّاسة، فبحثوا عن شركاء من حول العالم، وأصبحت «الأخبار» شريكة «ويكيليكس» المعتمدة في العالم العربي، حيث عملنا معاً على العديد من التسريبات التي تخص منطقتنا.
لم يكن جوليان أسانج يعرف من هم أمين الجميّل وبطرس حرب ونايلة معوّض ودوري شمعون وغيرهم ممّن كان يلتقيهم سفير الولايات المتحدة في عوكر خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان ويردّدون على مسامعه: «لا توقفوا الحرب» (على عكس أطفالهم اليوم، لم يكن هؤلاء السياسيون يقولون ذلك في العلن)، لكنّ الوثائق التي حصل عليها الموقع الذي أسّسه، كشفت نفاق آلاف السياسيين المنبطحين لواشنطن حول العالم. وهذا ما أدّى إلى حملة عليه وعلى «ويكيليكس» بدأت تشويهاً وابتزازاً وانتهت به أسيراً.
عندما نقول عن جوليان أسانج إنه أسيرنا، فهذا ليس فقط لأنّه زميلنا في الصحافة وشريكنا في النشر. فهو رفيق في المواجهة أيضاً، فهو لم يكفّ أو يهرب عندما بات واضحاً أن واشنطن تريد أن تجعل منه عبرةً لكي لا يتجرّأ آخرون على نشر أسرار واشنطن الإمبريالية وجرائم حروبها. واشنطن ذهبت حتّى إلى خلق وتمويل بدائل لـ«ويكيليكس» لطيفة نظيفة مرضيّ عنها، يمكن لمن يحب أن يسرّب معلومات عن مفسدين أن يلجأ إليها. شبكات من هذه البدائل تنتشر في دول الجنوب ومنها عالمنا العربي، أو «مينا ريجن» كما تسمّيه البدائل. قد تكونون قد سمعتم عن بعضها في دوائر التوظيفات والتنفيعات، لكن حتماً ليس بسبب تسريبات نشرتها. في هذا الحين، وأسانج تحت الإقامة الجبرية ومسجون في غرفة في سفارة، كانت «ويكيليكس» تعزّز مكتبتها العامة عن ممارسات الإمبريالية، ليس فقط عبر مؤسسات واشنطن الرسمية، بل أيضاً عبر أذرعها. راجعوا تسريبات مراسلات شركة ستراتفور والبرقيات الديبلوماسية السعودية التي تعاونت «الأخبار» مع «ويكيليكس» في نشرها.
لم يتوقف نشاط أسانج إلّا بعد الخيانة التي تعرّض لها شعب الإكوادور، حين تمكّنت واشنطن من إيصال عميل لها إلى الرئاسة لينقلب بعدها على إرادة شعبه بأكمله، فطبعاً سمح الخائن للشرطة الإنكليزية بانتهاك سيادة بلاده وسحل لاجئ سياسيّ من سفارتها وأسره. انقلابات واشنطن في ما تسميه باحتها الخلفية لم تكن خفيّة يوماً، فهي كانت وما زالت علنيّة جدّا، لكنّ الكمّ المعرفي المتراكم عن الأساليب والتكتيكات التي تعتمدها واشنطن في الانقلاب على إرادة الشعوب عبر العقود، والذي ساهمت «ويكيليكس» في جزء منه، أدى إلى خلق موجة ثورية في القارة. لذا، ليست مصادفة أن أوّل من هنّأ الرفيق جوليان على الحرّية كان رؤساء أميركا اللاتينية الثوريون، بينما صمت عملاء أميركا عابرٌ للقارات.
في «الأخبار» لم نعتد الصمت. زميلنا وشريكنا ورفيقنا جوليان، دمت حرّاً!