مع تفكُّك الاتحاد السوفياتي، انقلب الوضع على الحدود الإيرانية مع آذربيجان، وذلك بعد 70 عاماً، عَرفت خلالها حدود الدولتَين هدوءاً واستقراراً ثابتَين. ولكن المفاجأة كانت أن آذربيجان - ذات الغالبية الشيعية - دخلت، مع تفكُّك الاتحاد، في توتّرات مع إيران، أيضاً ذات الغالبية الشيعية. ويعود هذا إلى سببين: أولهما، ظهور «نخبة» حاكمة في باكو تقدِّم النزعة القومية على ما غيرها، فصعدت تيارات متطرّفة مثّلها الرئيس الراحل أبو الفضل ألتشي بك، الذي بلغت به الجرأة السياسية حدّ الدعوة إلى تقسيم إيران وضمّ آذربيجان الإيرانية إلى جمهورية آذربيجان؛ وثانيهما، مسارعة إسرائيل إلى الإمساك بتلابيب النخبة الحاكمة في باكو، لتكون آذربيجان، بخلاف جمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة، قاعدة للاستخبارات الإسرائيلية على الحدود الإيرانية.وجاء التنافس التركي - الإيراني، وكون تركيا عضواً في «حلف شمال الأطلسي»، ليزيد من محاولات الضغط على الجمهورية الإسلامية بعد زوال الاتحاد السوفياتي، ووقوف أنقرة إلى جانب باكو على قاعدة «أمّة واحدة في بلدَين». ومع ذلك، سعت طهران لإدارة علاقات «طبيعية» مع جارتها، وإنْ أَظهرت انحيازاً نسبيّاً إلى جانب أرمينيا، كون الأخيرة كانت لا تزال تحتفظ بعلاقات جيدة مع روسيا. وعلى الرغم من وصول نيكول باشينيان، ذي الميول الغربية، إلى سدّة الحكم في أرمينيا، عام 2018، ظلّت العلاقات بين يريفان وطهران قوية، وإن كان هذا الوصول قد بدأ يترك تدريجيّاً تأثيراته السلبية على «محور طهران - يريفان»، ولا سيما أن سياسة رئيس الوزراء الغربية تركت صدعاً خطيراً في العلاقات الأرمينية - الروسية. وتجلّى ما تقدّم في الحرب الآذربيجانية على أرمينيا عام 2020، والتي انتهت إلى انتصار باكو، بانسحاب القوات الأرمينية من كامل الأراضي التي استولت عليها بعد تفكُّك الاتحاد السوفياتي، حيث اعتبرت يريفان أن من أسباب هزيمتها، هو تخلّي روسيا عن تفعيل معاهدة الدفاع المشترك معها. وكان للتطوّر النوعي المذكور تداعياته على الساحة القوقازية، ولا سيما العلاقات بين إيران وآذربيجان؛ فاتفاق وقف النار بين باكو ويريفان نصّ، في أحد بنوده، على فتح ممرّ بري وسكة حديدية من مقاطعة نخجوان الآذربيجانية على الحدود مع تركيا إلى الأراضي الآذربيجانية عبر الأراضي الأرمينية، عُرف بـ»ممرّ زينغيزور»، الذي اعتبرته إيران بمثابة تهديد لمكانتها الجيواستراتيجية في القوقاز، خصوصاً أن شقّه سيعني تعطيل خطّ الترانزيت الإيراني.
شهد عام 2024 بداية مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدَين، في إطار سياسة التهدئة التي اتبعتها إيران


وبذلك، أضيف سبب آخر للتوتّر بين إيران وآذربيجان، وبين الأولى وتركيا؛ ففي الـ27 من كانون الثاني 2023، كانت السفارة الآذربيجانية في طهران تتعرّض لهجوم مسلّح أسفر عن مقتل شخصين، بينهما مسؤول الأمن في السفارة، لتخلي باكو، على إثر الحادثة، سفارتها، متّهمةً إيران بالوقوف وراءه. وفي الثاني من شباط، حصل زلزال في منطقة خوي في إيران، فسارعت آذربيجان إلى عرض المساعدة، لكنّ طهران رفضت. وفي الـ11 من آذار الماضي، احتجّت باكو على اختراق طائرة حربية إيرانية المجال الجوي الآذربيجاني واعتبرته عملاً عدائياً. وفي الـ6 من نيسان، طردت آذربيجان أربعة من العاملين في السفارة الإيرانية لديها، بحجة أنهم غير مرغوب فيهم، نظراً إلى النشاطات «المعادية» لباكو في إيران.
وفي ظلّ هذه التوترات، كانت آذربيجان تقضي على البقية الأرمينية في القوقاز من خلال السيطرة على كامل إقليم قره باغ في الـ19 أيلول من العام الماضي، لتصبح الغلبة الكاملة لآذربيجان ومعها تركيا في توازنات القوّة في القوقاز. ولكن عام 2024 شهد بداية مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدَين، في إطار سياسة التهدئة التي اتبعتها إيران. فكانت الزيارة «التاريخية» للرئيس الإيراني الراحل، إبراهيم رئيسي، ومعه وزير الخارجية الراحل، حسين أمير عبد اللهيان، في الـ19 من أيار الماضي، إلى منطقة الحدود الإيرانية - الآذربيجانية لافتتاح سدّين أقيما على نهر آراس بمشاركة الرئيس الآذربيجاني، إلهام علييف. وكان ذلك أرفع لقاء بين البلدين، ليشكّل نقطة تحوّل كبيرة عكستها الكلمات التي ألقاها رئيسي وعلييف في الاحتفال، حول أهمية الصداقة بينهما. ومع أن حادثة الطائرة التي تلت الاحتفال أفضت إلى مأساة كبيرة، غير أن التوقعات كانت أن رئيسي لم يذهب الى احتفال تدشين السدّين لو لم يكن ذلك بداية لمسار جديد من تحسين العلاقات بينهما. وبالفعل، شهد، الخميس، طلاق مناورات عسكرية مشتركة ليوم واحد بين الجيشَين الإيراني والآذربيجاني من أجل «تعزيز الكفاح ضدّ الإرهاب والأمن الحدودي» بين البلدين. وقال مساعد القوات البرية الإيرانية، الجنرال أمير كريم تشيشيك، إن المناورات هدفت أيضاً إلى «حماية أمن سد آراس»، إلى جانب أنها تزيد من اعتماد طهران وباكو على جهودهما بعيداً من أيّ تدخلات خارجية.