لندن | أدخل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، النخبة السياسية في بلاده في مزاج الصدمة، بعدما حلّ البرلمان ودعا إلى انتخابات عامّة مبكرة، على إثر الانتصار الساحق الذي حقّقه مرشّحو "التجمُّع الوطني" (أقصى اليمين) في الانتخابات الأوروبية، نهاية الأسبوع الماضي. وحصل "التجمّع" على ثلث أصوات الفرنسيين في الانتخابات المؤهّلة للبرلمان الأوروبي، أي أكثر ممّا ناله حزب الرئيس، "النهضة" (نحو 15%)، و"الاشتراكيون" (14%) معاً. واستيقظت العاصمة باريس، صباح الإثنين، على وقْع حمّى تصريحات وجولات محادثات بين مختلف الأحزاب والتيارات، تستهدف استكشاف فرص بناء تحالفات محتملة قبل موعد الجولة الأولى من الانتخابات التي ستجري في الـ30 من حزيران الجاري، على أن تُعقد الثانية بعدها بأسبوع (7 تموز). ووصف وزير المالية، برونو لومير، هذه الانتخابات بـ"الأكثر أهمية لفرنسا وللفرنسيين في تاريخ الجمهورية الخامسة"، أي منذ بداية عهد شارل ديغول في كانون الأول 1958. وقال: "يجب أن نقاتل من أجل فرنسا والفرنسيين. أمامنا ثلاثة أسابيع للقيام بحملة وإقناع الناخبين". وفي المقابل، يبدو أن خطوة الرئيس أربكت "التجمّع الوطني"، الذي اعتبر على لسان سيباستيان تشينون، نائب رئيس الحزب، الانتخابات المبكرة بمثابة "هدية مسمومة". لكن حتى حلفاء الرئيس في حزب "النهضة"، بدوا غير مقتنعين بمبادرته إلى حلّ البرلمان، و"ما زالوا في حال من الصدمة"، وفق ما قال النائب عن الحزب، إيمانويل بيليرين. ومن جهته، هاجم رافائيل غلوكسمان، أحد قادة الحزب "الاشتراكي"، خطوة ماكرون، بالقول إن الأخير "اختار أن يلعب لعبة خطيرة للغاية بالديموقراطية والمؤسسات"، وهو تقييم اشتركت فيه كذلك فاليري بيكريس، الشخصية البارزة في "الحزب الجمهوري" اليميني المحافظ، والتي نُقل عنها قولها إن "حلّ البرلمان من دون إعطاء الأحزاب السياسية الوقت للتحضير وتنظيم الحملات الانتخابية، كأنه لعبة (روليت) روسية بمصير البلاد". كما اشتكت رئيسة بلدية باريس، آن هيدالغو، من قرار إرسال الجمهورية إلى صناديق الاقتراع قبل أسابيع فقط من استضافة العاصمة للألعاب الأولمبية في نهاية تموز، ووصفته بالأمر "المقلق للغاية".
لكن ماكرون أصرّ، في تصريحات صحافية، على أن الذهاب إلى صناديق الاقتراع خلال هذه المرحلة يصبّ في مصلحة البلاد، ورفض تقييمات بعض حلفائه بأن تلك "مقامرة مجنونة قد تنتهي إلى تسليم السلطة إلى التجمُّع الوطني"، ما يعني عزله عملياً عن التأثير على السياسات الداخلية خلال السنوات الثلاث المتبقية من عمر ولايته. وأكّد الرئيس أن فريقه السياسي سيسعى إلى الفوز في الانتخابات، مراهناً على ما يبدو على حشد الناخبين الوسطيين واليساريين والأغلبيّة الصامتة التي لم تقترع الأحد الماضي (في الأوروبيات) في مواجهة صعود أقصى اليمين في فرنسا وأنحاء القارة؛ علماً أن نحو 50% شاركوا في الانتخابات الأوروبية، في مقابل 70% يشاركون عادةً في الانتخابات البرلمانية. ويحاول ماكرون بالفعل إضفاء طابع درامي على الخيار الذي يواجهه الفرنسيون تالياً، عبر مخاطبته الناخبين مباشرة بالقول: "هل تريد حقاً أن يحكمك اليمين المتطرّف؟".
سيناريو البرلمان المتشظّي هو ما ستنتهي إليه الأمور هذا الصيف في فرنسا


ولا شكّ في أن ماكرون يستند، على الأقل في جزء من قراره حلّ البرلمان، إلى خبرة تاريخية في أوروبا تشير إلى أن الناخبين غالباً ما يستخدمون الانتخابات الأوروبية كوسيلة ذات تكلفة غير مباشرة لتوجيه الركلات إلى الحكومات القائمة، لكنهم يصوّتون بشكل مختلف في الانتخابات البرلمانية. وهو لذلك استبعد، في مقابلة صحافية، أن يتمكّن أقصى اليمين من تكرار نموذج انتصاره الأوروبي. وقال معلّقاً على تكهنات بأن تيار أقصى اليمين قد يدعو إلى استقالة ماكرون في حال فاز "التجمّع" بالأغلبيّة، إن منصبه ليس مهدداً بأيّ حال، بحكم الدستور، حتى وإن امتلكت المعارضة أغلبية مطلقة في البرلمان.
حسابياً، ثمة ثلاثة سيناريوات متوقَّعة جرّاء "المقامرة الماكرونية": أولها، أن ينجح النداء العاطفي للدفاع عن القيم الجمهورية والديموقراطية وأوروبا الموحّدة في تجميع كل المتضرّرين من صعود أقصى اليمين، ويمنح تحالف ماكرون أغلبية في البرلمان. لكن هذا الاحتمال يبدو ضعيفاً مع تدنّي مستوى الرضى عن أداء الرئيس في ولايته الثانية إلى أقلّ من الثلث، وتراجُع قدرته على المناورة في تمرير التشريعات عبر البرلمان، واعتماده بدلاً من ذلك على أدوات دستورية استثنائية مطعون في ديموقراطيتها، فيما اكتفت كتلة "التجمّع الوطني" (88 نائباً) بلعب دور المعارضة المسؤولة التي صوّتت ضدّ كل قرارات السلطة التنفيذية تقريباً، ولا سيما تلك المفتقدة منها إلى الشعبية. أمّا السيناريو الثاني، فهو فوز "التجمّع الوطني" بأغلبيّة (النصف زائداً واحداً) من مجموع مقاعد الجمعية التشريعية الـ577، ما يفترض بالرئيس حينئذ تكليف رئيس حزب "التجمّع"، جوردان بارديلا، البالغ من العمر 28 عاماً، بتشكيل الحكومة. وهذه الصيغة من التعايش قد تُريح ماكرون الضعيف أصلاً، إذ تمكّنه من قضاء ما تبقّى من فترة ولايته في مقعد الناقد لأداء الحكومة والبرلمان في أي إخفاقات تتعلّق بالمعاشات التقاعدية، وإعانات البطالة، والتعليم، والضرائب، ومسائل الهجرة والجنسية، والتوظيف العام، وفرض القانون والنظام، وتشريعات العمل، بينما يكتفي هو بإدارة السياسة الخارجية للجمهورية.
لكن على الأغلب، فإن سيناريو البرلمان المتشظّي هو ما ستنتهي إليه الأمور هذا الصيف، حيث يحتمل أن يضاعف حزب "التجمّع" من حجم كتلته في البرلمان، وقد يصبح أكبر كتلة لحزب منفرداً لكن من دون امتلاك أغلبيّة، ما ينتهي إلى انقسام بين كتل كبيرة لا يسهل توافقها. وهكذا، سيحتاج كل قرار، من تعيين رئيس للحكومة إلى أصغر مسألة تشريعية، إلى مفاوضات وتحالفات، بما ينتج كثيراً من القضايا العالقة والطرق المسدودة. ودعم أول استطلاع للرأي هذا السيناريو الأخير، إذ منح حزب "التجمّع الوطني" 34% من الأصوات، بفارق كبير عن حزب "النهضة" (19%)، و"الجمهوريون" (9%)، وأيّ صيغة تحالف يساري (22%).
وفي هذه الأثناء، شرعت النخب السياسية في مناقشة تحالفات ممكنة؛ إذ التقى جوردان بارديلا مع مارين لوبن، مرشحة "التجمّع" للانتخابات الرئاسية القادمة، والتي ترأّست قائمة حزب "استعادة" اليميني المتطرّف في انتخابات الاتحاد الأوروبي، لتأسيس تحالف انتخابي. كما فاجأ إريك سيوتي، زعيم "الحزب الجمهوري" (يمين الوسط)، الشارع الفرنسي بإعلانه الرغبة في التحالف مع "التجمّع"، الأمر الذي عدّه بعض يمين الوسط "خيانة"، فيما رحّبت به لوبن باعتباره "خياراً شجاعاً". أيضاً، عقد قادة اليسار الفرنسي المتناحرون - أقصى اليسار "فرنسا التي لا تنحني"، و"الشيوعيون"، و"الاشتراكيون" و"الخضر" - محادثات طارئة للنظر في تجميع قواهم في تحالف. ويتعيّن على الأحزاب تحديد قوائم مرشّحيها يوم الـ16 من حزيران الجاري، على أن تبدأ الحملات الانتخابية رسمياً في الـ17 منه.