لندن | ستتعقّد أمور التشريع وعمليات اتّخاذ القرار في بروكسل (مقرّ الاتحاد الأوروبي)، بعدما حقَّقت أحزاب أقصى اليمين الشعبوي مكاسب مهمّة لها في انتخابات البرلمان الأوروبي، في عدد من أكبر دول الاتحاد - ولا سيما في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا -، فيما تقدَّمت أحزاب يسار الوسط في شمال القارة (السويد والدنمارك)، كما في رومانيا ومالطا. ومع هذا، فإن كتلة الأحزاب الرئيسية من يمين الوسط (تتلاقى تحت لافتة «حزب الشعب الأوروبي»)، والتي شكّلت التيار الغالب على سياسات التكتُّل في السنوات الخمس الماضية، تمكّنت من الاحتفاظ بأغلبيتها، وذلك بفضل دعم قوي حصلت عليه في إسبانيا وبولندا، ما عزّز أيضاً من فرص التجديد لمرشحة الحزب، الرئيسة الحالية للمفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، لقيادة الجهاز التنفيذي للاتحاد خلال المرحلة المقبلة، إذ تحتاج للفوز إلى دعم 361 من أعضاء البرلمان الجدد.
واحتفلت فون دير لايين التي أدارت الاتحاد خلال الخمسية المنصرمة كما لو كان حديقة خلفيّة لواشنطن، بهذه النتيجة، عادّةً إيّاها «إشارة صريحة إلى أن الوسط الذي يدعم أوروبا قويّة، متماسك وصامد»، مع اعترافها بأن «ثمّة اضطراباً في أوضاع العالم من حولنا»، وأن «هناك قوى من الخارج ومن الداخل تحاول زعزعة استقرار مجتمعاتنا، وتحاول إضعاف أوروبا». وكرّرت لازمة: «بالطبع، فإنّنا لن ندع ذلك يحدث أبداً». وقالت للصحافيين، مساء الأحد، إن حصول أحزاب أقصى اليمين واليسار على دعم شعبي متزايد، «يضع مسؤولية أكبر على عاتق الوسطيين الذين قد تكون بينهم تباينات حول مسائل فرعيّة، لكنهم جميعاً لديهم المصلحة نفسها في الاستقرار، وفي أوروبا قويّة وفاعلة». وأكدت أنها تريد مواصلة العمل مع كل التيارات «التي تؤيّد الوحدة الأوروبية، وسيادة القانون، وأوكرانيا».
ومن المقرّر أن يحصل «حزب الشعب الأوروبي» على 189 مقعداً من أصل 720 في البرلمان، يليه «الاشتراكيون والديمقراطيون» بـ135 مقعداً، و»تجديد أوروبا» بـ83 مقعداً، فيما ستحصل «مجموعة المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين»، التي تضمّ أحزاباً من أقصى اليمين، مثل «إخوان إيطاليا» بزعامة رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني، على 72 مقعداً، و»حزب الهوية والديمقراطية» اليميني المتطرّف على 58 مقعداً، وهو ما يجعل مجموع مقاعد تيارات الوسط (يمين الوسط، والوسط، ويسار الوسط ) 462 مقعداً بحصة تعادل حوالى 64% من مجموع مقاعد البرلمان، مقارنةً بحصّتهم البالغة اليوم 69% في البرلمان المنتهية ولايته.


وفي خطوة مفاجئة، دعا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى انتخابات تشريعية مبكرة في بلاده (30 حزيران الجاري)، في ضوء هزيمة ساحقة تعرّض لها حلفاؤه من «حزب النهضة» على يد مرشّحي «حزب التجمع الوطني» بزعامة مارين لوبن (أقصى اليمين). وحصل «التجمع» على 32% من مجموع الأصوات الفرنسية في الانتخابات، أي أكثر من ضعف ما توقّفت عنده حصة مرشّحي «النهضة» - الذين بالكاد تجاوزوا مستوى الـ14% -، فيما الأخير تفوّق بشق الأنفس وفارق ضئيل من الأصوات على «الاشتراكيين» الذين حصلوا أيضاً على 14%. وقال ماكرون، معلّقاً: «لا يمكنني التصرّف وكأنّ شيئاً لم يحدث»، متوجّهاً إلى الفرنسيين الذين خذلوه: «لقد قرّرت أن أعطيكم الخيار».
من جهته، عاش الائتلاف الحاكم في ألمانيا، بقيادة المستشار أولاف شولتس، كابوساً، مع حصول «الديمقراطيين المسيحيين» (حزب المعارضة الرئيس) على أكثر من 30% من الأصوات، وكذلك تحقيق «حزب البديل من أجل ألمانيا» (أقصى اليمين) تقدُّماً ملموساً من مستوى 11% في دورة انتخابات 2019، إلى أكثر من 16.5% هذه المرّة، متفوّقاً على حزب شولتس «الاجتماعي الديموقراطي» الذي حصد 14.6%، وهي أضعف نتيجة له على الإطلاق منذ عام 2019. وتلقّى «حزب الخضر»، حليف شولتس في الائتلاف الحاكم، صفعة من الناخبين، بعدما تخلّى قادته عن معظم تعهداتهم، وانخرطوا كأنهم في سباق لإرضاء الأميركيين، ولو على حساب القضايا البيئية وما تعلّق بأزمة المناخ، فحصلوا على تأييد 12% فقط، مقارنة بأكثر من 20% في أوروبيّات 2019.
وفي إيطاليا، حيث تقود جورجيا ميلوني من حزب «إخوان إيطاليا» (أقصى اليمين، ووريث الحزب الفاشستي) حكومة ائتلافية، نجح حزبها في المحافظة على دعم ثلث الإيطاليين تقريباً، متقدّماً بشكل مريح على منافسيه من الوسط ويسار الوسط. أمّا في النمسا، فقد حصد «حزب الحرية» (أقصى اليمين) المرتبة الأولى، بحصوله على تأييد 25.7% من الناخبين، متقدّماً بذلك على الحزب الحاكم «الشعب» (يمين الوسط) الذي نال 24.7%، وهو ما دفع مستشار النمسا، كارل نيهايمر، إلى القول إن رسالة الناخبين وصلته، وإنه سيتعامل بشكل صارم مع مصادر قلقهم، بما فيها قضية الهجرة غير الشرعية، وذلك قبل الانتخابات العامة التي ستجري في وقت لاحق من هذا العام. وفي هنغاريا، انكمش تأييد «حزب فيدس» الذي يقوده الرئيس فيكتور أوربان، على رغم حصوله على أكبر عدد من أصوات الناخبين، إذ إن أداءه كان الأسوأ منذ سنوات؛ ولذا، توقّفت ثقة الناخبين به عند حد الـ44%، في مقابل أكثر من 30% مُحضت لأكبر أحزاب المعارضة.
ومع ذلك، فإن لدى أحزاب أقصى اليمين من المخاوف ما قد يفسد العرس الانتخابي الذي عاشته نهاية هذا الأسبوع، إذ إن «حزب البديل من أجل ألمانيا» على خلاف مع التيار الرئيس لأقصى اليمين الأوروبي، ما قد يعطّل من إمكان تنسيق المواقف والتصويت داخل البرلمان. كما أن رفاقهم في دول الشمال الأوروبي خسروا من دعمهم الشعبي لمصلحة الأحزاب اليسارية والخضراء، وأصبح «حزب الشعب الاشتراكي» (يسار الوسط) أكبر أحزاب الدنمارك بنسبة تأييد تجاوزت الـ17%، أي بزيادة بمقدار الثلث عن دورة انتخابات البرلمان الأوروبي في عام 2019، ليحلّ بعده «الحزب الاشتراكي الديمقراطي» الحاكم بنسبة 15.6% من الأصوات. وتكرّر ذلك في هولندا، حيث تراجع «حزب الحرية» (أقصى اليمين) إلى المرتبة الثانية بـ17%، من مجموع أصوات الهولنديين بعد تحالف اليسار و»الخضر» بقيادة نائب رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي السابق، فرانس تيمرمانز، والذي حصل على المركز الأول بعد تأييد 21.1% من الناخبين له.
وفي بلجيكا، التي أجريت فيها الانتخابات الأوروبية والعامة والبلدية بشكل متزامن، فقد الائتلاف الحاكم المنتهية ولايته بقيادة رئيس الوزراء الليبرالي، ألكسندر دي كرو، القدرة على تشكيل أغلبية، بعدما تقدّم «التحالف الفلمنكي الجديد» ليصبح أكبر حزب في البرلمان. لكن حزب أقصى اليمين في بلجيكا، فشل في تحقيق نتائج حاسمة، وسيبقى دي كرو رئيساً مؤقتاً للوزراء إلى أن يتمّ تشكيل ائتلاف جديد بدلاً من الحالي الذي يضمّ حالياً سبعة أحزاب. ووفقاً للبروتوكول المعتمد، فقد وضع دي كرو استقالته بيد العاهل البلجيكي، الملك فيليب، بعد لقائه به، أمس، في القصر الملكي في بروكسل.