لندن | بدأ ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني، مقامرة كبيرة، بإطلاقه الدعوة إلى انتخابات عامة في البلاد في الرابع من تموز المقبل، في وقت يتخلّف فيه حزبه - «المحافظون» - الحاكم، بأكثر من 20 نقطة مئوية عن حزب «العمل» المعارض، وفقاً لأحدث استطلاعات الرأي. وأعلن سوناك، مساء أول من أمس، أن «الآن هو الوقت المناسب لبريطانيا كي تختار مستقبلها»، متأملاً تحقيق خامس فوز على التوالي لـ«المحافظين»، يمدّد هيمنتهم على السلطة والتي استمرّت لنحو 15 عاماً - بدأت بحكومة كاميرون الائتلافية في عام 2010 -. وقال: «فقط حكومة المحافظين التي أقودها لن تعرّض استقرارنا الاقتصادي الذي حقّقناه بشقّ الأنفس للخطر»، واصفاً نفسه بأنه أفضل شخص لحماية بريطانيا في الأوقات المحفوفة بالمخاطر. وأضاف: «لا أستطيع ولن أدّعي أننا حصلنا على كل شيء بشكل صحيح. لم تستطع أي حكومة ذلك، لكنني فخور بما حققناه معاً، والإجراءات الجريئة التي اتخذناها. أنا واثق مما يمكننا القيام به في المستقبل». كما أعلن أنه تحدث إلى الملك تشارلز الثالث الأربعاء الماضي، وأن الأخير وافق على حل البرلمان في الثلاثين من الشهر الحالي، ما يترك فسحة ستة أسابيع لتنظيم الحملات الانتخابية قبل توجّه الناخبين إلى صناديق الاقتراع. وبحسب استطلاعات الرأي الأحدث، فإنّ حزب «المحافظين» سيفوز بـ23 بالمائة من أصوات الناخبين لو أجريت الانتخابات اليوم، وهو المستوى المتدنّي نفسه الذي كانت انحدرت إليه شعبية سلفه، ليز تروس، عام 2022، خلال أيام عمر حكومتها الأقصر في تاريخ المملكة. ويجعل ذلك الفارق مع حزب «العمل» المعارض، عشرين نقطة مئوية، كان يمكن أن تكون أكثر لولا بعض المواقف الجدليّة التي تتخذها قيادة الحزب المعارض اليمينية الهوى. لكن سوناك يعتقد بأن الإشارات الإيجابية الأحدث في المجال الاقتصادي - بما فيها انخفاض نسب التضخم، والعودة إلى النمو -، ستكون منصة صلبة يمكنه بناء الحملة الانتخابية عليها.
وتعدّدت التكهنات، في صحف لندن، حول دوافع سوناك في الإقدام على خطوته هذه؛ إذ بينما يقول البعض إنه قطع بها الطريق على متمرّدين داخل حزبه كانوا يتآمرون لسحب الثقة منه لفشله في وقف انهيار شعبية الحزب إلى واحد من أدنى مستوياتها التاريخية، يعتقد آخرون أن سوناك توصّل إلى قناعة، مع الرجل الثاني في الحكومة - جيريمي هانت، وزير المالية -، بأنه لا جدوى من الصمود في الحكم لستة أشهر أخرى، في ظل انعدام الآمال في حدوث تحسّن ملموس في الاقتصاد يمكن توظيفه لاستعادة ثقة الناخبين. إذ إن التضخم سيعود - وفقاً لتوقعات الأسواق المالية -، فيما يبدو أن الحكومة الحالية لا تحظى بتأييد كاف لتشريع قانون يخفّف الضرائب على المواطنين قبل نهاية العام. كما أن بنك إنكلترا المركزي لا يعتزم تخفيض أسعار الفائدة في أي وقت مبكر، بما يكفي لإحداث تأثير إيجابي ملموس على الموارد المالية للناخبين، الذين تدنّت معدلات دخولهم إلى مستويات كان عليها أجدادهم قبل جيلين.
يقول مطلعون على الأجواء داخل حزب «المحافظين»، إن قرار الدعوة إلى الانتخابات كان مفاجئاً


وبينما كان سوناك يناشد الناخبين ألا يثقوا بقدرة حزب «العمل»، ورئيسه السير كير ستارمر، على اتخاذ القرارات الصعبة، فإن ستارمر المنتشي بتطورات الأحداث التي قد تنتهي إلى تسلّمه مفاتيح «10 دوانينغ ستريت»، في أقل من شهرين، تغنّى، في خطاب له، بـ«التغيير» الذي صار مستحَقاً. وقال مخاطباً المواطنين: «معاً يمكننا وقف الفوضى وطيّ الصفحة والبدء في إعادة بناء بريطانيا وتغيير بلدنا نحو الأفضل». وأضاف: «بعد 14 عاماً في ظل حكم المحافظين، يبدو أنه لا شيء يعمل في هذا البلد بعد الآن. الخدمات العامة تنهار، وسيارات الإسعاف لا تأتي، والأسر مثقلة بارتفاع معدلات الرهن العقاري، والسلوك المعادي للمجتمع في شوارعنا الرئيسة، والقائمة تطول وتطول. الفوضى السياسية تغذّي الانحدار، والانحدار بدوره يغذي الفوضى». وبينما اعترف بأن الناخبين فقدوا ثقتهم في السياسيين، فهو رأى أن الفرصة سانحة الآن لتغيير ذلك.
ويقول مطلعون على الأجواء داخل حزب «المحافظين»، إن قرار الدعوة إلى الانتخابات كان مفاجئاً، ولم يطلّع عليه حتى مجلس الوزراء قبل اجتماعه الأربعاء. واضطر وزير الخارجية، اللورد ديفيد كاميرون – وهو رئيس وزراء أسبق -، إلى العودة على عجل من ألبانيا لحضور اجتماع مجلس الوزراء حين أُعلن القرار. ونقلت الصحف عن عدد من النواب «المحافظين» شعورهم بالصدمة وباليأس من إمكانية تحقيق انتصار، فيما تحدّث بعضهم عن صراعات أجنحة واقتتال داخلي وتقاذف للاتهامات. وفي المقابل، فإن شهية «العمل» للعودة إلى السلطة تبدو مبرّرة وأقرب إلى التحقّق مما كانت عليه في أي وقت مضى؛ إذ فاز الحزب الذي يجمع كيانات وتجمعات نقابية وسياسة متعددة تحت لوائه، في الانتخابات العامة في عام 2005 - تحت قيادة السير توني بلير، بطل مشروع «العمل الجديد» الأقرب إلى اليمين -، قبل أن يتولى تلميذ الأخير، ستارمر، مقاليد القيادة الحالية إثر تعرض الحزب لهزيمة قاسية في انتخابات 2019، عندما توافقت كل الجهات النافذة في البلاد على أنّ إيصال اليساري جيريمي كوربين إلى منصب رئاسة الوزراء سيكون بمثابة كارثة للأثرياء، وللعلاقات البنيوية مع الولايات المتحدة، والتيارات الصهيونية ذات النفوذ في أوساط النخبة الحاكمة، وتقرر إسقاطه.
وعمل ستارمر، في الأشهر الماضية، على تقديم نفسه كشخصية يوثق بها لتسلّم أعلى منصب تنفيذي في المملكة، وهو في ذلك طرح سياسات أقرب إلى اليمين منها إلى الوسط، وتراجع عن تعهدات تقليدية للحزب أوقات الانتخابات تجاه نقابات العمال، واتخذ مواقف مخزية إزاء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، مراهناً على استقطاب الناخبين المحافظين بدلاً من أولئك الذين خسرهم بسبب هذه الخيارات. وقد يكون ستارمر محظوظاً بأبعد من مجرد كسب الغاضبين من أداء «المحافظين» وفضائحهم؛ إذ يتوقع المراقبون أن يتخلّى عدد من الناخبين في إقليم اسكتلندا عن تأييدهم لـ«الحزب القومي الإسكتلندي» بسبب مشكلات القيادة داخله، لمصلحة ممثلي «العمل» في الإقليم.
أما الأحزاب الأخرى، فستحقّق، من دون شك، مكاسب، ودائماً على حساب «المحافظين»، إذ سيتحدى «الليبراليون الديموقراطيون» و«الأحرار الوسطيون»، «المحافظين»، في معاقلهم جنوبي البلاد، في حين يهدد حزب «الإصلاح» اليميني، الذي أنشأه اليميني المتطرف نايجل فاراج، باكتساح قلاع «المحافظين» في وسط البلاد وشمالها، ويأمل «الخضر» كسب الناخبين الغاضبين من «المحافظين» و«العمل» على السواء، لتحقيق اختراقات في المدن المتوسطة والبلدات.