لا يعني الهدوء النسبي المخيّم على شوارع فرنسا، منذ ليل الإثنين-الثلاثاء، أنّ الاضطرابات الأخيرة باتت «خلف ظهر» السلطات الفرنسية، وعلى رأسها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون. فحتى الآن، لم يُدل هذا الأخير بأيّ كلمة وافية عمّا حصل، أو سيحصل مستقبلاً، مكتفياً ببعض التصريحات التي يدلي بها أثناء لقاءات يحضرها مع قوات حفظ الأمن، شملت حديثه أخيراً عن فرض عقوبات على «أُسر» الشبّان المشاركين في أعمال الشغب، فيما يرى البعض أنّ سبب ذلك هو «خشيته» من المواجهة السياسية في الوقت الحالي، ولا سيما أن المشكلات التي تولّد مثل هذه المظاهر، متجذّرة في المجتمع والسلطة الفرنسيَين، حيث يغيب أيّ إطار تنظيمي عن الأول، وتتفشّى البيروقراطية في الأخيرة.ومع انخفاض وتيرة العنف التي طبعت التحرّكات في فرنسا على مدى أسبوع كامل، بشكل كبير ليل الإثنين-الثلاثاء، اعتُقل 72 شخصاً فقط، 24 منهم في باريس ومحيطها الصغير، وحرق 24 مبنى أو هدمه في جميع أنحاء الإقليم، وفقاً لتقرير صدر عن وزارة الداخلية، أمس. وقد سجّلت الوزارة أيضاً إحراق 159 سيارة، و202 حريق في الشوارع (معظمها من علب القمامة)، في الليلة السابعة على التوالي من أعمال الشغب التي أعقبت مقتل الشاب نائل مرزوق، البالغ من العمر 17 عاماً على يد ضابط شرطة في نانتير. كما سُجّل أربع هجمات على مباني الشرطة الوطنية والدرك والشرطة البلدية، من دون أن يُصاب أيّ من عناصر حفظ الأمن، بعدما تمّت تعبئة 45 ألفاً من رجال الشرطة والدرك لليوم الثالث على التوالي.
ووسط هذا الهدوء «النسبي»، أجرى ماكرون مجموعة من اللقاءات مع قوات حفظ الأمن، كما التقي، أمس، 220 عمدةً من المناطق التي تعرّضت لأعمال الشغب. وبعد هذه التبادلات مع الشرطة، توجّه الرئيس الفرنسي مع وزير الداخلية، جيرالد دارمانين، إلى الدائرة السابعة عشرة في باريس، حيث تحدّث أيضاً إلى أفراد من قوّة الشرطة والدرك ورجال الإطفاء. وفي أعقاب ذلك، ذهب إلى محافظة باريس لإجراء مزيد من اللقاءات بعد منتصف الليل. وتأتي هذه اللقاءات، التي لم يُتمّ الإعلان عنها مسبقاً، في إطار أول رحلة ميدانية لماكرون منذ وفاة مرزوق، بعدما أجّل رحلته إلى ألمانيا، حيث كان ينبغي أن يكون الإثنين.

«لم تنتهِ بعد»
وخلال اجتماعٍ، مساء الاثنين، مع سلطات إنفاذ القانون في باريس، اقترح ماكرون فرض عقوبة مالية على العائلات، وفقاً لتقرير أوردته صحيفة «لو باريزيان» الفرنسية. ونقلت الصحيفة عن الرئيس قوله، خلال لقائه مع قوات حفظ الأمن، إنّه كخطوة أولى، «يجب معاقبة العائلات ماليّاً وبسهولة»، على أنّ يتم تحديد حدّ أدنى من التعرفة في البداية، علماً أنّ أكثر من مسؤول فرنسي طرح فكرة تحميل الأُسر «مسؤولية» خروج أطفالهم القصّر، والذين يشكّلون نسبة كبيرة من المشاركين في التظاهرات، وانخراطهم في أعمال الشغب ليلاً، في محاولة لضبط التحرّكات.
وعلى رغم تراجع أعمال العنف، فقد رفض ماكرون اعتبار أنّ ما حصل «أصبح وراءنا»، متابعاً: «سنرى ما سيحدث في 13 و14 تموز المقبل، وماذا سيحدث في الأشهر المقبلة»، داعياً سلطات إنفاذ القانون إلى «البقاء في حالة تأهّب قصوى»، و«الحفاظ على وجود مكثّف» لتعزيز الهدوء.
تراجعت حركات التثقيف الشعبي، وباتت التحركات النقابية التي يمكن أن ترافق المسيرة وتنظّمها، وتهدئ التوتّرات المماثلة التي نشهدها الآن، مستنزفة


تجنّب المواجهة؟
تزامناً مع ذلك، يقول مقرّبون من ماكرون إنّه يسعى إلى تكوين «فهم لأصل العنف»، قبل تقديم أيّ إجابات للأزمة التي تشهدها الضواحي، ويرفض الإدلاء حالياً بأيّ خطاب، وهو تصرُّف، بحسب تقرير أوردته صحيفة «لو موند» الفرنسية، يهدف إلى تجنّب أيّ مزايدة أو مواجهة سياسية، وسط انتقادات يواجهها من قِبَل منافسيه ومعارضيه، ولا سيما زعيم اليسار الفرنسي ورئيس حزب «فرنسا غير الخاضعة»، جان لوك ميلونشون، الذي أعاد نشر تغريدة تتضمّن مقطع فيديو للرئيس الأسبق، جان شيراك، يتحدّث فيه عن قيم «الأخوة والكرم والاحترام»، ويقول لأبناء «الأحياء حيث الظروف الصعبة»، إنّهم جميعاً أولاد الجمهورية الفرنسية. واللافت، أنّ حديث شيراك جاء بعد 18 يوماً من بداية «أزمة» الضواحي في عهده عام 2005. وبحسب «لو موند»، تبدو هذه اللهجة مختلفة إلى حدّ كبير عن تلك التي هيمنت في الأوساط السياسية منذ 27 حزيران. فبعد 18 عاماً، يبحث ماكرون عن كلمات لمخاطبة الجمهورية الفرنسية التي «تتمزّق» أمام عينيه منذ وفاة الشاب، فيما يقول الإليزيه إنّه من غير الممكن أن يتحدّث الرئيس إلّا «بعد استقرار الأوضاع»، إذ «يجب أن نحاول فهم أصل العنف العابر لمجتمعات محلية مختلفة للغاية».

السلطة «الضعيفة»
إلا أنّه بالنسبة إلى خبير الضواحي، إروان روتي، فهناك عدّة أسباب تفسّر ما تشهده فرنسا في السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، يستذكر الخبير، في حديث منفصل للصحيفة الفرنسية نفسها، أنّه في عام 1983، أي قبل 40 عاماً بالضبط، انطلقت «مسيرة المساواة»، في أعقاب «خطأ فادح» ارتكبته الشرطة ضدّ شاب مقيم في حيّ في فينيسيو. آنذاك، نجحت هذه المسيرة، على امتداد فرنسا، في تحويل الغضب إلى «مبادرة سياسية»؛ حتى أنّه لدى وصولها إلى باريس، كانت قد تمكّنت من حشد 100 ألف شخص، وقادت منظّميها إلى الإليزيه، وانتزعت بعض الإنجازات القانونية. وبحسب روتي، فقد غيّرت هذه المسيرة وجه المجتمع الفرنسي، لمدّة عشر سنوات على الأقلّ، بفضل حركة ثقافية واسعة، عرفت بالعامية بمصطلح «بور» «beur»، -وهو مصطلح عامي في فرنسا يطلق على الأشخاص المولودين في فرنسا لوالدَين مهاجرَين من شمال أفريقيا -، وساهمت في تسييس جيل كامل من سكّان الأحياء، وسائر أنحاء فرنسا.
وفي محاولة للإجابة عن السبب الذي يجعل اضطرابات عامَي 2005 و2023 مختلفة عن هذه المسيرة، على رغم تطابق الأسباب التي أدّت إلى اندلاع التحرّكات الثلاثة، يقول روتي إنّ السياق الذي أتت فيه الاضطرابات تغيّرت؛ إذ تراجعت حركات التثقيف الشعبي، وباتت التحركات النقابية التي يمكن أن ترافق المسيرة وتنظّمها، وتهدئ التوتّرات المماثلة التي نشهدها الآن، مستنزفة، ويكاد وجودها يصبح منسيّاً في ظلّ «خطط الضواحي» وتدفّق المليارات في هذه الأحياء للترميم. علاوة على ذلك، لم يَعُد صانعو القرار السياسي يتمتّعون بالسلطة التي كانوا يتمتّعون بها من قبل، وفي مؤسّسات لكل منها جدول أعمالها الخاص وسلطاتها المستقلّة، مشيراً إلى أنّ البيروقراطية ضعّفت السلطة ولم تَعُد الهيئات الضعيفة قادرة، بالتالي، على وضع مشروع طويل الأمد. أضف إلى ذلك، غياب أيّ تواصل إنساني ومرئي مع المنظمات المسؤولة عن دعم الجهات الفاعلة في الأحياء، والاكتفاء بفتح مجال على وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل والتعبير، حيثُ يترك البعض غضبهم «ينفجر» بلا أيّ حدود.