بات في الإمكان تنحية قضيّة ممثّلة الأفلام الإباحية، ستورمي دانييلز، جانباً، مع سلوك محاكمة دونالد ترامب مساراً دراميّاً، قد لا تطول في ظلّه حالة السكون. فالقضيّة الأحدث، وعنوانها «الولايات المتحدة ضدّ دونالد جيه ترامب»، التي انطلقت المحاكمة الثانية على خلفيّتها، والمتّصلة بوثائق سرّية قرّر ترامب الاحتفاظ بها في منزله الكائن في ولاية فلوريدا، وفضلاً عن كونها تضع الرئيس السابق والمرشّح الحالي في مواجهة سابقة تاريخيّة بمثوله أمام القضاء الفدرالي، يمكن أيضاً أن تؤول إلى ما لا يتمنّاه خصومه في المعسكر الديموقراطي، والذين سارع جُلّهم إلى الترحيب بصدور لائحة اتّهام يخشون تحوّلها إلى «أداة لتحقيق مكاسب سياسية»، ذلك أن «الفوز بالرئاسة قد يكون طريقة ترامب الوحيدة لتجنّب عقوبة السجن». كما أنها ستشدّ عضد قاعدته الناخبة التي ترى في أصل المحاكمة وتوقيتها عوامل تسييس فاقعة، ولا سيما أن وثائق مشابهة عُثر عليها في حوزة الرئيس الحالي جو بايدن، ونائب الرئيس السابق مايك بنس، وقبلهما - وفي مقدّمتهما - هيلاري كلينتون التي تمّ «تطنيش» قضيّة البريد الإلكتروني الخاصّة بها، على رغم الضجّة التي أثارتها حين كانت وزيرةً للخارجية إبّان عهد باراك أوباما. وعلى المقلب الجمهوري، ظهرت بوادر التعاطف والمساندة، حتى من جانب منافسي ترامب الساعين إلى الظفر ببطاقة الحزب لانتخابات الرئاسة المرتقبة نهاية العام المقبل، وفي طليعتهم حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس، مع علم هؤلاء المسبق بأن الانقضاض على الرئيس السابق - في حال انسحابه من السباق - سيعني مجازفةً بعزل القاعدة الموالية له.اقتياد ترامب إلى المحكمة مرةً تلو أخرى، لا يخلو في جانب رئيس منه من تعمُّدٍ لإذلاله، وتصويره بصورة المتّهَم الذي لا يصلح لأن يكون في أيّ موقع متقدِّم في السلطة، وإنْ كان تكرار الواقعة تتابعاً - بسبب كثرة القضايا التي يجري التحقيق في شأنها - يفقدها شيئاً من «بريقها»، ويجعلها أقرب إلى سلسلة مضجرة، حتى في ظلّ عدم اتّضاح مآلها. لكن ترامب - والحال هذه - يَظهر مستفيداً من الجلبة المحيطة به، كونه شخصية صاخبة تزدهر تحت الأضواء، وخصوصاً إذا كانت من الطبيعة التي تُراكم مظالمه، وتجعله ضحيّة في عيون أنصاره ومحبّيه، وما أكثرهم. ففي قاعة المحكمة في ميامي، آثر الرئيس السابق الصمت، بينما كان محاميه يؤكد أن موكله «غير مذنب» في مواجهة كلّ التهم الـ 37 الجنائية الموجّهة ضدّه (تشمل تهماً مِن مِثل انتهاك قانون التجسس، والإدلاء ببيانات كاذبة، والتآمر لعرقلة العدالة، وغيرها) في قضيّة الوثائق السرّية، والتي يرى البعض أنها الأخطر على الإطلاق من بين القضايا الأخرى التي يواجهها. ووفق لائحة الاتهام، تضمّنت الوثائق التي نقلها ترامب إلى منزله في نهاية ولايته الرئاسية «معلومات تتعلّق بالقدرات الدفاعيّة للولايات المتحدة ولدول أجنبية، وبالبرامج النووية الأميركية»، كما بـ«نقاط ضعف محتملة للولايات المتحدة وحلفائها في حال تعرّضها لهجوم عسكري»، وكذلك «خطط ردّ محتمل على هجوم أجنبي»، ما يعرّض، وفق ما هو وارد في ديباجة اللائحة، «أمن الولايات المتحدة للخطر».
اقتياد ترامب إلى المحكمة، مرةً تلو أخرى، لا يخلو في جانب رئيس منه من تعمُّدٍ لإذلاله


وإذ تمثّل مواجهة رئيس سابق لائحة اتهام فدرالية مشكلةً في ذاتها، وسابقة، فإن كثيراً من التهم الموجّهة ضدّ ترامب تقع في إطار «قانون مكافحة التجسّس»، وهو ما يمكن أن يؤدّي - في حال إدانته - إلى قضائه سنوات طويلة في السجن. ويعقّد من القضيّة أيضاً كون ترامب رئيساً سابقاً، ومرشّحاً حاليّاً هو الأوفر حظّاً، وفق ما تُظهره استطلاعات الرأي، لنيل بطاقة الحزب الجمهوري لانتخابات 2024، علماً أن توجيه اتهامات جنائية فدرالية إليه أو حتى إدانته أو سجنه لا يمنعه من الترشّح أو الفوز أو شغل منصب رسمي. وفيما يهوّن وليام بار، وزير العدل في حكومة ترامب، من القضيّة باعتبارها سهلة، ثمّة مَن يشير إلى أن المشكلة هي في أصل التصنيفات وطبيعة المادة المصنَّفة «سرّية» أو «سرّية للغاية». وبرأي خبير العلوم السياسية في جامعة فرجينيا، لاري ساباتو، فإن كثيرين «يأملون استبعاد ترامب من السباق من خلال عدد من الاتهامات، من بينها تلك المتعلّقة باقتحام الكابيتول في السادس من كانون الثاني 2021، ومحاولة قلب نتيجة الانتخابات في جورجيا... هذا كلّ ما في الأمر. إنها استراتيجيتهم. لن يفعلوا شيئاً». وبدأت القضيّة - موضوع المحاكمة - عندما استعاد «الأرشيف الوطني» - الوصيّ على السجلّات التاريخية الأميركية - 15 صندوقاً من الوثائق كانت بحوزة ترامب في منزله الكائن في منتجع مارالاغو، كان ينبغي تسليمها في نهاية فترة ولايته، يوم 20 كانون الثاني 2021. لكن المحقّقين وجدوا لاحقاً أن الرئيس السابق ومحاميه، اللذين كانا يعرقلان مسار استعادة الوثائق، لديهما المزيد من الملفّات المخبّأة في فلوريدا، ما دفع «مكتب التحقيقات الفدرالي» إلى دهم منزل ترامب، في آب من العام الماضي، لاسترجاع نحو 300 وثيقة كانت مكدّسة في قاعات رقص وغرف نوم وحمّام.
على أن توقيت محاكمة ترامب يمثّل معضلة كبيرة؛ ففي الوقت الذي يتقدّم فيه بقوّة على بقيّة المرشّحين الجمهوريين (حوالي 30 نقطة)، ويواجه محاكمتَين (ستورمي دانييلز والوثائق السرّية)، يُحكم الرئيس السابق قبضته بقوّة على قاعدة انتخابية جمهورية شديدة الولاء له لا تقلّ نسبتها عن نصف الناخبين الجمهوريين. ويُواجه ترامب أيضاً تحقيقاً فدرالياً آخر لدوره في أحداث اقتحام «الكابيتول» في السادس من كانون الثاني 2021، فيما يتوقّع أن توجَّه إليه اتهامات بـ«الابتزاز والتآمر» في جورجيا على خلفيّة محاولته قلْب نتائج الانتخابات هناك. وتحدّث ترامب الذي سبق أن ندّد بما يعتبره «اضطهاداً سياسيّاً»، في مؤتمرَين للجمهوريين في ولايتَي جورجيا وكارولاينا الشمالية، مستخدماً المنصّتَين لمهاجمة «مكتب التحقيقات الفدرالي» (إف بي آي) واتّهام المدّعين الفدراليين باستهدافه بطريقة غير عادلة. ومن غرينزبورو في كارولاينا الشمالية، قال ترامب: «أنتم تتعاملون مع مجانين»، مضيفاً: «الاتهام الذي لا أساس له ضدّي» من جانب إدارة بايدن «سيصبح من بين أفظع إساءات استخدام السلطة في تاريخ بلدنا»، وهو ما كرّره بعد ساعات من انتهاء أولى جلسات محاكمته، معتبراً أنه «لم تَعُد لدينا ديموقراطية حيث يتمّ اعتقال خصم سياسي، وبلادنا في حالة انحدار خطير». ورأى الرئيس السابق أن له الحقّ في الاحتفاظ بالوثائق، استناداً إلى «قانون السجلاّت الرئاسية»، ذلك أن «الرئيس يتمتّع بسلطة غير مقيّدة لاتّخاذ القرارات الخاصّة بالتعامل مع المستندات الرئاسية». وهو انتقد أيضاً عدم التحقيق مع أيّ رئيس آخر حتى أولئك الذين خبّأوا وثائق أكثر من تلك التي كانت في حوزته، في إشارة إلى بايدن الذي احتفظ بمجموعة من الوثائق السرّية منذ أن كان نائباً للرئيس وعضواً في مجلس الشيوخ، وهيلاري كلينتون التي «خرقت القانون ولم تُوجَّه تهم إليها كما حصل مع بايدن».
في موازاة كلّ هذا الضجيج، لا يبدو الوضع أفضل حالاً على ضفّة المعسكر الديموقراطي، وخصوصاً بعد قرار بايدن الترشُّح لولاية ثانية، على رغم هبوط رصيد مقبوليته أحياناً إلى 36%، وتزايد علامات الاستفهام حول سنّه، ما يمكن أيضاً أن يحدّ من تأييده، ولا سيما في صفوف المستقلّين الذين يشكّلون الرافعة الرئيسة للفوز. وإذا لم يحدث أيّ طارئ، فستكون أميركا مرّة أخرى، العام المقبل، أمام نسخة منقّحة من انتخابات 2020.