أفاقت الولايات المتحدة، بعد نحو عامَين على الانسحاب من أفغانستان، على أن العجلة في الانسحاب، والتي فرضها تقدُّم جماعة «طالبان» للسيطرة على جميع الولايات، في غضون 12 يوماً، لم تكن في محلّها، بل كان ينبغي بدء الإخلاء في وقت مبكر، لتقليل الخسائر التي مُنيت بها واشنطن مع إزهاق أرواح 13 من جنودها المغادِرين، وليس لمنع الحركة من العودة إلى السلطة، وهو ما لم يكُن وارداً أو ممكناً أصلاً. مع هذا، لم تَجد إدارة جو بايدن - التي أشرفت على عملية الانسحاب هذه باعتبارها كما ذكر الرئيس نفسه ذات مرّة «نجاحاً غير عادي» ونهايةً لحقبةِ استخدام القوّة العسكرية -، سبيلاً أنجع من إلقاء اللوم على إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب. وعلى أساس ذلك، نشر مجلس الأمن القومي، في نيسان الماضي، مراجعةً أُجريت عبر الوكالات الحكومية، بما فيها وزارة الخارجية و«البنتاغون»، دافع فيها عن الإدارة الديموقراطية، التي «فعلت كلّ ما في وسعها»، بعدما «ورثت» عن الإدارة السابقة موعداً للانسحاب، من دون خطّة لتنفيذه، ليخلص إلى أنه «بعد أكثر من 20 عاماً صُرف فيها أكثر من تريليونَي دولار، وقيام جيش أفغاني قوامه 300 ألف عنصر، تشير السرعة والسهولة التي سيطرت فيها طالبان على أفغانستان إلى عدم وجود سيناريو - باستثناء حضور أميركي دائم - كان من شأنه أن يغيّر المسار (الانسحاب)». وإذ تُعدّ الإشارة الأخيرة إقراراً أميركيّاً بالفشل التامّ، عزّزته إشارة أخرى جاءت على لسان جون كبربي، منسّق الاتصالات الاستراتيجية في المجلس، إلى «(أنّنا) لم نؤدّ عملنا في أفغانستان على ما يرام»، فإن المناكفات السياسية دخلت أيضاً على خطّ «الخيارات الاستراتيجية»، مع تحميل الإدارة الحالية، ترامب، ما آلت إليه عملية الانسحاب: بدءاً من اتفاقه مع «طالبان» على سحب القوات الأميركية بحلول ربيع عام 2021، ووصولاً إلى خفضه المتعجّل لأعداد القوات (من 10 آلاف جندي عندما تولّى الرئيس السابق منصبه، نزولاً إلى 2500 كانوا آخر مَن غادر البلاد)، ممّا وضع بايدن أمام «خيارات محدودة».صدر هذا الملخّص قبل أشهر قليلة من حلول موعد الذكرى الثانية للانسحاب الأميركي من أفغانستان، في الـ31 من آب المقبل؛ وعلى رغم مرور كلّ ذلك الوقت، تبدو أفغانستان، التي اعتادت على مدى عقود طويلة الغزوات والحروب، وكأنها أصبحت بلداً منسيّاً، في ظلّ حُكم «طالبان». وبين تجربتَي الحُكم الأولى والثانية، لم تتغيّر الآليات استناداً إلى الوعود التي قطعتها الحركة - وإنْ اتّسم خطابها المُحدَّث بلهجة «تصالحيّة» لم تعهدها من قَبل -؛ فشكَّلت حكومة جُلُّها من قياداتها البشتونية، ومن دون مراعاة التعدُّدية الإثنية والعرقية في أفغانستان، فيما ارتكز أساس الحُكم على ما يَصدر من مكتب زعيمها، الملّا هيبة الله آخوند زاده، المقيم في ولاية قندهار، في ظلّ غياب دستور يحدِّد القواعد الأساسية لشكل الدولة، ونظام الحُكم فيها. وبخلاف حكومتها الأولى التي حظيت باعتراف ثلاث دول، هي: باكستان والسعودية والإمارات، لا تزال «طالبان»، بعد سنتين، تنتظر اعترافاً بحُكمها، تُبدي كثير من الدول - حتى تلك المناهضة للولايات المتحدة - تحفُّظاً، على الأقلّ رسميّاً، إزاءه. ويَظهر أن الحَراك القطري، المُنسَّق مع الولايات المتحدة، على هذا المستوى، يسعى إلى إحداث خرق في حالة الجمود القائمة، والمنعكسة بطبيعة الحال على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية للسكّان الأفغان، البالغ عددهم 40 مليون نسمة، يحتاج ثلاثة أرباعهم إلى المساعدة، وفق أرقام الأمم المتحدة. كذلك، تعمل الدوحة على إعداد «خريطة طريق» تفضي إلى حصول «طالبان» على اعتراف دولي، مدافِعةً بأن عزل هذا البلد من شأنه أن يؤدّي إلى تدهور الأوضاع الأمنية في المنطقة.
تعمل الدوحة على إعداد «خريطة طريق» تفضي إلى حصول «طالبان» على اعتراف دولي


وخلال زيارةٍ «سرّية» أجراها إلى أفغانستان، التقى رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، زعيم الحركة، آخوند زاده، في قندهار، في 12 أيار الماضي، للحديث حول سُبل تهدئة التوتّرات مع المجتمع الدولي، في ظلّ ما قيل إنها رغبة لدى حكّام كابول في إنهاء عزلتهم. وكشفت «رويترز» أمر الزيارة والمحادثات التي وصفها «مصدر مطلّع» تحدّث إلى الوكالة بـ«الإيجابية للغاية»، لافتاً أيضاً إلى أنه جرى إطلاع إدارة بايدن على نتائجها، كونها «تنسّق في شأن كلّ القضايا التي أثيرت في المحادثات» بين الجانبَين، مع قطر. وتشير تصريحات المصدر إلى أن واشنطن دعمت رفْع مستوى المحادثات مع الحركة، بعدما لم يسفر الحوار على مستوى أدنى عن تحقيق نتائج، على أمل تخفيف حدّة الأوضاع الإنسانية المتردّية والأزمة المالية التي تسبّبت في دفع ملايين الأفغان نحو الجوع والبطالة. وأثار رئيس الوزراء القطري قضايا أخرى مع زعيم «طالبان»، من بينها ضرورة إنهاء الحظر الذي فرضته الحركة على تعليم الفتيات وتوظيف النساء، لاسيما وأن القيود هذه عرقلت المساعدات الإنسانية، وكانت من الأسباب وراء عدم اعتراف أيّ دولة بحكم الجماعة، وفق الحجج الرائجة. وإلى هذا البند، ناقش الجانبان جهود معالجة الأزمة الإنسانية الأفغانية، و«الجهود المتواصلة على الأرض» التي تبذلها الحركة في مسألة «مكافحة الإرهاب»، البند الأبرز على جدول أعمال القوى الغربية.
وما هي إلّا أيام قليلة على المحادثات القطرية - الأفغانية، حتى أصدر آخوند زاده قراراً بتعيين مولوي عبد الكبير رئيس وزراء مؤقّت، ليحلّ محلّ الملا محمد حسن آخوند، البالغ 78 عاماً. وإذ أعلنت «طالبان» أن هذا التعيين «مؤقّت» - وهي الصفة نفسها التي أسبغتها على حكومتها لدى تشكيلها -، ويعود إلى حالة رئيس الوزراء السابق الصحية، ثمّة تكهّنات بأن القرار صدر بسبب الخلافات الداخلية بين جناحَي «طالبان» المتشدّد والأكثر «براغماتية»، وبأن التحرّك لاستبدال محمد حسن آخوند، الذي لعب دوراً بارزاً في التفاوض على «اتفاق الدوحة» مع واشنطن، ربّما يشير أيضاً إلى تحوّل نحو مزيد من الانفتاح. ومع ذلك، يلفت مركز «ستراتفور»، في تحليل نشره أخيراً، إلى أن منصب رئيس الوزراء المؤقت في الحكومة الأفغانية ليس له تأثير سياسي ذي مغزى، ويرجع هذا خصوصاً إلى حقيقة أن آخوند زاده هو الزعيم الأعلى وله السلطة النهائية على قرارات الحركة. غير أن إبداء «طالبان» بعض المرونة في سياسات من مِثل حظر عمل النساء في منظمات الإغاثة، يشي أيضاً بأن زعيمها قد يكون ميّالاً إلى حلول وسط. وربّما يؤدّي الضغط المتزايد من قادة «طالبان» الأكثر اعتدالاً، والخشية من تفاقُم الخلافات الداخلية، إلى دفع آخوند زاده إلى النظر في بعض التنازلات من أجل الحدّ من التدهور التامّ لوحدة الحركة، خصوصاً إذا أسفرت المحادثات مع قطر عن عروض بزيادة المساعدات الإنسانية أو الاقتصادية، في مقابل «الاعتدال».