تخطو طوكيو خطوات متقدِّمة، متجاوزةً «الدستور السلمي» لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكلّ ما هو متّصل بـ«تخلّي الشعب الياباني إلى الأبد عن الحرب كحقّ سيادي»، لتَقَعَ في «المحظور» الذي يقتضيه التحالف مع الولايات المتحدة، وما يترتّب عليه من جاهزية للدفاع عن المصالح الأميركية متى اقتضت الحاجة. وفي هذا الجانب تحديداً، يبدو أن شرارات الحرب الأوكرانية، لم تستثن اليابان، إنّما شجّعتها على إطلاق أكبر عمليّة تحديث وتطوير لقدراتها العسكرية، منذ عام 1945، في موازاة اعتماد استراتيجية جديدة للأمن القومي، تخلّلها، هذه المرّة، «تغيير تاريخي في سياسة الدفاع اليابانية»، التي باتت - كما الولايات المتحدة - تعدّ الصين «التحدّي الاستراتيجي الأكبر بصورة غير مسبوقة»، مع ما يتطلّبه ذلك من زيادة في حجم الإنفاق العسكري ليبلغ 2% من الناتج المحلي الإجمالي، بحلول عام 2027، وما يستتبعه تالياً من «عسكرة» متزايدة في الشرق الآسيوي، تتناول «الأخبار» مظاهرها في سلسلة من ثلاث حلقات، في ما يلي أولاها
للوهلة الأولى، تبدو أهوال الحرب الدائرة في قلْب أوروبا، خارجة عن سياقٍ عام أوسع عنوانه تحوُّل مركز الثقل العالمي نحو آسيا. واقع الأمر، أن خطوط النار الممتدّة على الحدود الغربية لروسيا تتّصل خيوطها بصراع آخر على حدودها الشرقية، يتمحور حول ما تحقّقه الصين من صعود سياسي، واقتصادي، وعسكري، وما يمكن الغرب، بالتعاون مع حلفائه الآسيويين، وعلى رأسهم اليابان، أن يفعله للإبقاء على «المارد الصيني» داخل القمقم، تلافياً لتحقُّق «نبوءة نابوليون».
مع بداية العام الجاري، جمع لقاءٌ رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، إلى الرئيس الأميركي جو بايدن، وهو جاء بعد أسابيع فقط من إعلان طوكيو عن أكبر عمليّة تحديث وتطوير لقدراتها العسكرية، منذ عام 1945، ونشْرها استراتيجية جديدة للأمن القومي. وعُدّ (اللقاء) بمثابة تعزيز للتحالف بين البلدَين في ظلّ تصاعد مخاوفهما المشتركة من تنامي القوّة العسكرية للصين، ومباركة أميركية لخطّة الدفاع اليابانية التي تتجاوز «الدستور السلمي» لطوكيو في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وسياسات التقييد العسكري المترتّبة عليها منذ عقود.

التحالف الياباني - الأميركي: حقبة جديدة من «المنافسة الاستراتيجية» مع الصين
البيان المشترك الذي تمخّض عن القمة الأميركية - اليابانية، عَكَس توافقاً تقليديّاً بين طوكيو وواشنطن حول العناوين العامة في شأن «نزع السلاح النووي» في شبه الجزيرة الكورية، ورفْض العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بالنظر إلى تداعياتها على حسابات كلٍّ من موسكو وبكين في الشرق الأقصى، مع التأكيد على دعم كييف على أكثر من صعيد. وقبل قمة بايدن - كيشيدا بيومين، عقد وزيرا الدفاع والخارجية الأميركيان اجتماعاً مع نظيريهما اليابانيّين للتأكيد على انسجام استراتيجية البلدَين إزاء ملفّات عدّة، على رأسها ملفّات تايوان، وكوريا الشمالية، وعسكرة الفضاء من خلال وضْع الأقمار الاصطناعية لليابان تحت «البنود الحمائية» الأميركية، وفقاً للمادة الخامسة من الاتفاقية الموقّعة بين الجانبَين، في مقابل منْح طوكيو دوراً عسكرياً أكبر في آسيا، والموافقة على خطط لتعزيز القوات الأميركية، عدّة وعديداً، على الأراضي اليابانية بحلول منتصف العقد الحالي. وتتضمّن تلك الخطط، إمكانية الدفاع عن اليابان انطلاقاً من جزيرة أوكيناوا، عن طريق قوّة يابانية - أميركية متعدّدة المهام تنتشر في الجزيرة، والعمل على تزويدها بأسلحة نوعية، ولا سيما الصواريخ المضادة للسفن، بدءاً من عام 2025، وذلك كجزء من خطّة أشمل لتأسيس عدد من وحدات الانتشار السريع المعروفة باسم «Force Design 2030» للعمل في مختلف أرجاء البلاد. كما تَلحَظ الخطّة سيناريوات وقوع حرب في تايوان، وتسهيل انتشار عناصر من مشاة البحرية الأميركية في عدد من الجزر اليابانية في حالات الطوارئ، كجزر ريوكو الجنوبية الغربية، وكذلك جزر نانسي التي تبعد عن تايوان حوالي 70 ميلاً فقط.
وللدلالة على عمق التحوّلات في السياستَين الدفاعية والخارجية لطوكيو، أعلى الجانبان، في ختام اجتماعات «2+2» على مستوى وزراء خارجية ودفاع البلدَين، ولادة «حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية» مع الصين.
هنا، يحضر مشهد الاستقطاب في شرق آسيا، والمحيط الهادئ والذي بدأ يأخذ شكل حلف روسي - صيني - كوري شمالي داعم بشكل أو بآخر لمنطق موسكو حيال أوكرانيا، لا ينفكّ يزداد وضوحاً، مع فارق يحمله تصاعُد مستويات «العسكرة» على مستوى المحور الآخر الداعم لواشنطن في تلك المنطقة، وتحديداً اليابان التي تملك سجلّاً حافلاً من التباينات التاريخية والجيوسياسية مع الأطراف الثلاثة.

ماذا تحمل زيادة موازنة الدفاع؟
عطفاً على إقرار استراتيجية جديدة للأمن القومي، وبرنامج البناء الدفاعي، أعلنت حكومة فوميو كيشيدا عن موازنتها العسكرية الجديدة، بزيادة نسبتها 20% مقارنة بموازنة العام الماضي، بحيث قاربت مستويات قياسية بلغت 55 مليار دولار. وعلى مدى السنوات الخمس المقبلة، وافقت طوكيو على مضاعفة نفقاتها الدفاعية تدريجيّاً، لتصل إلى حدود 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027، بقيمة إجمالية تُقدَّر بحوالي 320 مليار دولار، وذلك كنوع من الالتزام بمعايير «الناتو» كما تطالب واشنطن منذ سنوات، بما سيتيح رفْع موازنتها العسكرية إلى 73 مليار دولار، لتصبح ثالث أكبر موازنة دفاع في العالم بعد الولايات المتحدة والصين.
من ناحية أخرى، يمكن القول إن التزام حكومة كيشيدا بزيادة النفقات الدفاعية، يشكّل انقلاباً على إجماع الحكومات اليابانية المتعاقبة منذ الستينيات، لإبقاء موازنة وزارة الدفاع عند مستوى 1%. ومع ذلك، فإن مسألة إعادة تسليح اليابان لا تزال تثير جدلاً داخليّاً واسعاً، على رغم أنها باتت أكثر قبولاً، وخاصة في ظلّ وجود دعم أميركي لهذا النهج. وفي هذا السياق، يُنظر إلى زيارة بايدن لطوكيو، في أيار الماضي، على أنها جاءت لإظهار حجم الدعم الأميركي للحكومة اليابانية الحالية، بعد تراجع شعبيتها على خلفية عدم وضوح مصادر وسبل تمويل زيادة الإنفاق العسكري. فقد أَظهر استطلاع للرأي أجرته «هيئة الإذاعة والتلفزيون اليابانية»، مطلع العام الجاري، أن حجم التأييد الشعبي لكيشيدا لم يتجاوز الـ 33%، مقارنة بـ 36% قبل نحو شهر. ووفقاً لنتائج الاستطلاع نفسه، فقد أعرب 61% من المستطلعين عن معارضتهم مقترح تمويل الزيادة المشار إليها عبر فرض ضرائب جديدة، فيما حظي المقترح بتأييد 28% منهم فقط.
يجزم محلّلون يابانيون بارتباط جرأة بلادهم المستجدّة بتطورات الحرب في أوكرانيا


«التحدّي الصيني» في استراتيجية الأمن القومي الجديدة
ويتزامن إقرار وثيقة الأمن القومي الجديدة لليابان، والتي تشكّل تعديلاً على الاستراتيجية السابقة لعام 2013، خلال عهد رئيس الوزراء الراحل شينزو آبي، مع تصاعُد وتيرة التجارب الصاروخية لكوريا الشمالية في الأشهر الماضية، بعد اختبارها صاروخاً بالستياً عبر أجواء اليابان، في تطوّر هو الأوّل من نوعه منذ عام 2017، إضافة إلى عودة الزخم إلى ملفّ النزاعات الحدودية لطوكيو أخيراً مع عدد من الدول، إلى دائرة الضوء، وبخاصّة ملفّ النزاع حول جزر كوريل مع موسكو، وجزر «سيناكاكو» في بحر الصين الشرقي (دياو يو كما تسمّيها الصين) مع بكين، التي أَطلقت بدورها 5 صواريخ في آب الماضي في اتجاه مناطق تُعدّ جزءاً من المنطقة الاقتصادية اليابانية الخالصة. وممّا تضمّنته استراتيجية الأمن القومي الجديدة لليابان، سعْي جيش هذه الأخيرة إلى اقتناء صواريخ بعيدة المدى، بما في ذلك شراء 500 صاروخ «كروز» من نوع «توماهوك»، الأميركي الصنع، إضافة إلى التوجّه نحو توسيع مدى الصواريخ المصنَّعة محليّاً. كما تشمل العمل على إنتاج صواريخ جديدة فرط صوتية، وشراء المزيد من الأسلحة الهجومية كالسفن البحرية والطائرات المقاتلة من الجيل الخامس، وبخاصة طائرات «إف-35» الأميركية، فضلاً عن الاستثمار في البنية التحتية الرقمية بما يتيح تأسيس «قوّة سيبرانية» تضمّ في عدادها أكثر من 20 ألف عنصر. وبحسب خبراء عسكريين، ترصد خطّة الحكومة اليابانية برنامج تصنيع صواريخ بالستية يبلغ مداها 1800 ميل بحلول عام 2030، على أن تستعين بصواريخ أميركية من هذا النوع حتى ذلك الوقت.
لا تخفي مصادر دبلوماسية أميركية سرورها بالتوجهات «الدفاعية» الجديدة لحكومة فوميو كيشيدا، معتبرة أنها تعكس تخليّاً عن نهجها الدستوري المحافظ في المسائل المتّصلة بالأمن القومي. ففي هذا المجال، يشرح الباحث في مجال الطيران والدفاع، لانس غاتلينغ، أن الوثيقة التي وُقّعت، في 16 كانون الأول الفائت، تمثّل «تغييراً تاريخياً في سياسة الدفاع اليابانية»، شارحاً أن ذلك يتجلّى من خلال تبنّي مبدأ «الهجوم المضادّ»، وذلك للمرّة الأولى منذ تأسيس الجيش الياباني، أو ما يُعرف بـ«قوات الدفاع الذاتي» في عام 1954، بما يعنيه ذلك من قدرات تتيح ضرب أهداف في كوريا الشمالية وفي الأجزاء القريبة في الصين، بصورة تعزّز قدرتها الردعية ضدّ بكين، وبيونغ يانغ. ضمن هذا الإطار، تخصّص الوثيقة الأمنية الجديدة حيّزاً مهمّاً للحديث عن الصين بصفتها «التحدّي الاستراتيجي الأكبر بصورة غير مسبوقة»، خلافاً لنسختها السابقة التي كانت تحثّ على أهمية الحفاظ على «نهج تعاوني» مع «الجمهورية الشيوعية» لحلّ المشكلات معها ضمن أطر المجتمع الدولي، إذ تعكس مخاوف عميقة في شأن تكثيف الصين نشاطاتها وتحرُّكاتها الإقليمية في آسيا. وبالحديث عن الوضع في جزيرة فورموزا، ومَيْل ميزان القوى هناك لمصلحة بكين، تشدّد الوثيقة على أهمية دعْم طوكيو جزيرة تايوان تحت عنوان «الدفاع عن نفسها»، مؤكدة أن مصير الجزيرة يحتلّ أهميّة بالغة في الأمن القومي الياباني، وهو أمر استنكرته الخارجية الصينية بشدّة.
يجزم محلّلون يابانيون بارتباط جرأة بلادهم المستجدّة ببعدَيها الدستوري والسياسي، لناحية تجاهل المادة 9 من دستور عام 1947، التي تنصّ صراحة على «تخلّي الشعب الياباني إلى الأبد عن الحرب كحقّ سيادي»، وضمنيّاً على إنكار حقّ الدولة بالدفاع عن شعبها، بتطوّرات الحرب في أوكرانيا، والتي عدّتها وثيقة الأمن القومي اليابانية «انتهاكاً جسيماً للقانون الدولي»، و«إخلالاً بأسس النظام العالمي». ففي هذا الصدد، يرى الباحث في «المعهد الياباني للدراسات الدولية»، تيتسو كوتاني، أنه «قبل نحو عام، كان مجرّد التفكير في إمكانية امتلاك اليابان القدرات الهجومية اللازمة لاستهداف أراضي دولة أخرى بشكل مباشر، أو تأمين الموارد المالية اللازمة لامتلاك مثل هذه القدرات، أمراً مستبعداً»، مؤكداً أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أدّت دوراً في تغيير ذهنية صنّاع القرار في طوكيو، والمزاج الشعبي العام على حدّ سواء. وفي الإطار عينه، يذهب مسؤولون عسكريون يابانيون إلى القول إن الاستراتيجية العسكرية الجديدة التي أقرّتها حكومة كيشيدا لا تكتفي بجعل القوات اليابانية أكثر اقتداراً فحسب، بل بجعلها شريكاً كاملاً للولايات المتحدة في مهامّ الدفاع عن البلاد، ومهاجمة القوى المعادية، خلافاً للعقود الماضية، حيث أُنيط الدور الأكبر على هذا الصعيد، وبخاصّة الهجومي منه سواء عبر الصواريخ أو الطائرات، بالقوّة الأميركية الموجودة على الجزر اليابانية التي يناهز عديدها الـ 50 ألف عنصر، يتمركز أكثر من نصفهم في جزيرة أوكيناوا. بناءً على ما سبق، يرى الجنرال الياباني المتقاعد، كونيو أوريتا، أن العالم «يشهد قيام تحالف جديد ومعزَّز بين الولايات المتحدة واليابان».

تحوّل النظرة تجاه الصين
تنطلق تقديرات العديد من المحلّلين من أن الحرب في أوروبا الشرقية أَوجدت حافزاً لتبدّل واسع في مزاج الرأي العام في اليابان. وبحسب استطلاع للرأي أُجري قبل 25 عاماً، لم تتعدّ نسبة اليابانيين ممَّن يحملون وجهة نظر سلبية تجاه الصين عتبة الـ 50%، فيما أظهر استطلاع جديد للرأي، أُجري بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ارتفاع تلك النسبة إلى 87%. وفي الاتجاه نفسه، يرى الناشط السياسي الياباني، جاي إيبا، أن «الدول ذات الأنظمة العسكرية الميليشيوية في منطقتنا لا تهدّد اليابان وجيراننا فحسب، بل تهدّد العالم بأسره أيضاً»، في إشارة إلى الصين. ويضيف: «نحن اليابانيين مستعدّون اليوم للدفاع عن أنفسنا، إلى جانب أصدقائنا وحلفائنا». بدوره، يشدّد الأستاذ المحاضر في العلوم السياسية في جامعة طوكيو، أوياما رومي، على أن بلاده كانت شديدة الحرص في السابق على عدم إثارة غضب الصين، موضحاً أن لهجة اليابان اختلفت اليوم، وباتت أكثر واقعية حيال إدانة السياسات الصينية.
أمام هذا كله، يجوز التساؤل: أيّ دور ستؤدّيه اليابان على المستوى الإقليمي في الفترة المقبلة؟ وما هي حدود التوافق بين هذا الدور وبين ما تطلبه واشنطن؟