شهدت السياسة الخارجية التركية، الأسبوع الماضي، أحداثاً تُخالف المسار الذي كانت قد اعتمدته البلاد منذ أشهر، والذي تجسّد في عدّة أحداث وخطوات، منها التطبيع مع إسرائيل، وإدانة الرئيس رجب طيب إردوغان، لعمليات المقاومة الفلسطينية ووصفها بـ"الإرهابية والشنيعة". كما يُضاف إلى هذا المسار، قرار المدّعي العام التركي بالتخلّي عن الاستمرار في النظر في قضية مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، وطلب نقل القضية إلى السعودية للاستمرار في البحث فيها. وليس بعيداً عمّا تقدّم، قامت أنقرة، يوم الثلاثاء الماضي، بحركة تشكيلات ديبلوماسية واسعة، قضت، في إحداها، بتعيين السفير صالح موتلو شين في القاهرة، تحت مسمى القائم بالأعمال (أي أنّه غير ملزم بتقديم أوراق اعتماده إلى الرئيس المصري)، إلى حين تطبيع العلاقات مع مصر، ليستمرّ عندها شين حينها في منصبه، كسفير. وجاءت هذه الخطوات "العملية"، في محاولة لطيّ صفحة خلافات ماضية بين أنقرة وكلّ من تل أبيب والرياض والقاهرة. وبدا، بالتحديد، أن تعيين شين يعكس تراجعاً عن سياسة التدخّل في الشؤون المصرية، وعن اعتبار الشأن المصري، كما السوري، مسألة داخلية تركية.
لكن ما حدث في تونس، قبل أيام، أعاد إلى الأذهان السياسات الأيديولوجية لـ"حزب العدالة والتنمية"، كونه راعياً وقاضياً في العديد من الأحداث، التي أدّت إلى وضع طوق العزلة على تركيا، في السنوات الأخيرة. فكما لو أن أنقرة لم تعتبر ممّا جرى مع مصر، عقب وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحُكم، ها هي المقاربة نفسها تتكرّر تجاه تونس، مع إعلان الرئيس قيس سعيد حلّ البرلمان التونسي، في الثلاثين من آذار الماضي، وتقديم سبعة أشخاص من بينهم رئيس البرلمان المنحلّ، راشد الغنوشي، زعيم حركة "النهضة" (الإخوانية)، إلى المحاكمة بتهمة الإرهاب، وطلب حكم الإعدام له. وجاء ردّ فعل أنقرة مفاجئاً، إذ اعتبر إردوغان حلّ البرلمان "محاولة انقلابية". ورأى في هذه الخطوة "أمراً مقلقاً لمستقبل تونس، وانقلاباً على إرادة الشعب التونسي". وقال إن "تركيا ستبقى إلى جانب تونس والشعب التونسي، في هذه المرحلة الحسّاسة". إلّا أنّ ما لفت انتباه المراقبين، هو أن المفردات التي استخدمها إردوغان في تعليقه على ما جرى، تكاد تكون طبق الأصل لما وصف به السيسي، بعد أحداث 30 حزيران 2013. كذلك، ذكّرت عبارته القائلة بأنّه يقف إلى جانب الشعب التونسي، بما كان يقوله عن أنّه يقف إلى جانب الشعب السوري.
ما حدث إزاء تونس، قبل أيام، أعاد إلى الأذهان السياسات الأيديولوجية لـ"حزب العدالة والتنمية"


ويحمل كلّ ذلك، البعض على الاعتقاد بأنّ تركيا، إذ تُقفل ملفّاً تفتح آخر، وبأن "السياسات العميقة" لـ"حزب العدالة والتنمية" لا تزال تراوح مكانها، منذ أكثر من عشر سنوات، وهي تتمثّل في تغليب العامل الأيديولوجي على عوامل المصلحة الوطنية. وهو ما تشير إليه المعارضة، عندما تطالب السلطة بضرورة العودة إلى الأسُس التي قامت عليها السياسة الخارجية في عهد أتاتورك، أي البقاء على مسافة من الدول وتغليب المصالح الوطنية على ما عداها. عطفاً على ما تَقدّم، ليس من الصعوبة الاعتقاد بأن الموقف التركي من حلّ البرلمان التونسي، سيُحدث شرخاً في العلاقات بين أنقرة وتونس، كما سيلفت انتباه القاهرة في خضمّ المحادثات مع أنقرة لتطبيع العلاقات، بالتالي سيجعلها أكثر حذراً ممّا تعرضه هذه الأخيرة على طاولة المفاوضات. حتى الإسرائيليون أنفسهم، يردّدون في مجالسهم أنّهم متردّدون في تسريع حركة التطبيع مع تركيا، من منطلق أنّ التجارب السابقة لا تشجّع على الاعتقاد بأنّ إردوغان يمكن أن يثبت على مواقفه.
وبالعودة إلى تونس، فقد كان من الطبيعي أن يتصدّى الرئيس قيس سعيد للموقف "الإردوغاني"، بقوله إنّه غير مقبول، مضيفاً أنّ تركيا "ليست ولاية عثمانية". ولم تقتصر ردود الفعل على الرئيس نفسه، ووزير خارجيته عثمان الجرندي، الذي استدعى السفير التركي في تونس، بل طاولت الأحزاب الأخرى التي اعتبرت موقف إردوغان تدخّلاً أجنبياً في الشأن الداخلي التونسي. واتّهم بعضها الغنوشي بأنّه يستدرج تدخّلاً تركياً في تونس. وعلى المقلب التركي، أثار التوتّر الجديد بين أنقرة وتونس العديد من التعليقات، حيث كتب محمد علي غولر، أول من أمس في صحيفة "جمهورييات"، أنّ "بلدين شهدا هذا الأسبوع حلّ مجلسيهما، هما باكستان وتونس"، مضيفاً أنّ "موقف حزب العدالة والتنمية من هذين الحدثَين، هو مثل زهرة دوار الشمس، فقد انتقد إردوغان بشدّة ما جرى في تونس، ورد عليه سعيّد والجرندي. ومن جديد خلق أزمة مع هذا البلد بسبب الإخوان المسلمين".
أما بالنسبة لباكستان، فقال غولر، إنّ إردوغان "التزم الصمت الكامل، ولم يفتح فمه بمعزل عن الأسباب التي تدعوه للصمت، ومنها عدم الاعتراض على حلّ المجلس في باكستان، حتى لا يفسّر موقفه سلباً في موسكو وبكين اللتين له معهما علاقات جيّدة، واللتين تدعمان عمران خان".