تمرّ العلاقات الروسية - الإيرانية بمنعطف استثنائي، بعد إطلاق روسيا العملية العسكرية في أوكرانيا لمنع تمدّد حلف «الناتو» نحو حدودها. هذا التمدّد اعتبره الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، «تهديداً أيضاً للمنطقة ولإيران وأمنها القومي»، فهو سيجعل صواريخ «الناتو» على مقربة من حدودها، ويولّد أخطاراً أمنية مباشرة لها. ومن هنا، وقفت طهران لسنوات إلى جانب موسكو في مواجهة «الأطلسي»، حسب علي أكبر ولايتي، المستشار الخاص للمرشد علي خامنئي، و«تصدَّيتا معاً مدّة 40 عاماً للولايات المتحدة». واليوم، يدفع هذا الخطر المشترك الدولتَين إلى تطوير التعاون القائم بينهما إلى مستوى شراكة استراتيجية، ليس في السياسة فحسب، بل في الاقتصاد والتجارة والتعاون العسكري والأمني، ولا سيما بعد خوضهما تجربة ناجحة في سوريا. لقد غلّبت طهران مبدئيّتها على مصالحها في موقفها من العملية الروسية، حين أكدت رفضها مبدأ «الحروب والدمار في كلّ مكان من العالم» ودعت إلى إنهائها، معتبرة أوكرانيا وشعبها ضحية سياسات الولايات المتحدة وأزماتها المفتعلة، ولذا، فهي لم ترفض قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن روسيا، بل امتنعت عن التصويت، وفي الوقت نفسه لم تُدِن موسكو، بل أعطتها الحق في حماية أمنها القومي من الخطر.لطالما أظهرت إيران عدم رضاها عن حجم العلاقات التجارية والاقتصادية مع روسيا، وكانت تطرح تساؤلات عن سبب التفاوت الكبير بين مستوى التعاون السياسي وذلك التجاري والاقتصادي. فالميزان التجاري لم يتجاوز 4 مليارات دولار عام 2021، فيما تطمح إيران إلى زيادته إلى 20 مليار دولار سنوياً، بحسب رئيس اللجنة الاقتصادية في مجلس الشورى الإيراني، محمد رضا بور إبراهيمي. وهذا ما ناقشه الوفد الإيراني المرافق لرئيسي خلال زيارته الأخيرة لموسكو، حيث تمّ توقيع مجموعة اتفاقيات، ولا سيما في مجال «توسيع حقول الغاز والنفط الإيرانية وإنشاء مصافي بتروكيماويات»، وفق ما أعلنه وزير النفط الإيراني، جواد أوجي. وقد بدأت النقاشات والتحضيرات بين اللجان المشتركة لتهيئة مسودّة اتفاقية لشراكة اقتصادية شاملة لمدّة عشرين عاماً، على غرار اتفاقية القرن المُوقَّعة بين طهران وبكين.
أمام هذه الرؤية المبدئية والواضحة لإيران في علاقتها مع روسيا، ثمّة من أثار شكوكاً حولها على ضوء الحرب الأوكرانية وتداعياتها. فقد أظهر الأميركيون رغبة جامحة في التوصّل إلى الاتفاق النووي اليوم قبل الغد، وذلك من أجل السماح لإيران بتصدير نفطها وإغراق السوق بالنفط، ما يساهم في خفض الأسعار الجنونية التي ارتفعت بفعل العقوبات الأميركية على روسيا. وبالتالي، يمكن إفقاد موسكو إحدى أهمّ أوراق قوتها، أي النفط والغاز الذي يغذّي 40 في المئة من حاجة أوروبا، الأمر الذي أشار إليه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بقوله إن «الولايات المتحدة طلبت من إيران وفنزويلا إخراج روسيا من أسواق الطاقة كشرط لرفع العقوبات عنهما». لكن محاولات الإغراء الأميركية لم تفلح في اجتذاب طهران، بل ارتفعت أصوات في الداخل الإيراني تطالب الوفد المفاوض في فيينا بعدم تقديم أيّ تنازلات للأميركيين، واستخدام سلاح النفط والغاز لإخضاع الغرب، وبخاصة أن الفرصة متاحة الآن؛ فإيران وروسيا وفنزويلا تمتلك مجتمعة 50 في المئة من الغاز في العالم، و35 في المئة من النفط، وإيران هي الدولة الثانية بعد روسيا التي تمتلك أكبر مخزون للغاز في العالم.
تؤكد إيران أن أولويتها تتركّز على تصدير الغاز إلى دول الجوار وليس الدول الأوروبية ولا سيما في هذه المرحلة


موسكو، بدورها، بدت قلقة من هذا السيناريو، وتواصلت مع إيران لمعرفة حقيقة الموقف، فسمعت تطمينات من طهران - بحسب مصادر مطّلعة - إلى أنها ليست بصدد أن «تبيع» حليفتها في وسط المعركة مقابل حفنة من الدولارات الأوروبية، مع الاحتفاظ بحقها في تصدير حصتها من النفط (مليونين ومئة ألف برميل يومياً). أمّا بخصوص الغاز، فأكدت إيران أن أولويتها تتركّز على تصديره إلى دول الجوار - مثل الكويت وسلطنة عمان وباكستان وتركيا -، ولا سيما في هذه المرحلة، فضلاً عن أنها بحاجة إلى عدّة أشهر لإنشاء خطّ أنابيب لنقل الغاز إلى القارّة الأوروبية، مع عدم إغفال أن روسيا تغطّي 40 في المئة من حاجة القارّة من هذه المادّة، وهو ما ليس بمقدور إيران تأمينه.
على أن قلق موسكو لم تبدّده التطمينات الإيرانية، ولذا طالب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الأميركيين بمنح بلاده ضمانات مكتوبة تستثني علاقاتها التجارية والاقتصادية مع إيران من العقوبات المفروضة على الأولى على خلفية الأزمة الأوكرانية (أعلن لافروف أمس أن موسكو تلقّت هذه الضمانات بالفعل)، الأمر الذي ترك تأثيراً سلبياً على مفاوضات فيينا التي كانت أوشكت على الانتهاء، بعدما أعلن الأوروبيون الأسبوع الماضي انتهاء 11 شهراً من المفاوضات الشاقّة، في انتظار حفل التوقيع. الطلب الروسي، على الرغم من تَسبّبه بتجميد المحادثات، لم تعارضه طهران، بل أكد نائب رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية السابق في مجلس الشورى، محمد جواد جمالي، أن «الضمانات التي طلبتها روسيا هي في مصلحة إيران أيضاً»، فيما أعلن علي واعظي، مستشار الوفد الإيراني المفاوض، أن «السبب الوحيد للجمود في محادثات فيينا هو مطالبة روسيا بضمانات»، متسائلاً: «لماذا لا يتحدّث السيد شمخاني والسيد عبد اللهيان عن ذلك»، موضحاً أن روسيا متردّدة لسببَين:
1- سعر النفط العالمي، حيث ستؤدي الاتفاقية إلى خفض الأسعار العالمية وتقليل نفوذ روسيا في مجال الطاقة.
2- مع إنجاز الاتفاق، سيكون التركيز الكامل الأميركي والأوروبي على روسيا، وهو ما لا تراه الأخيرة لصالحها.
وباستثناء ما تَقدّم، لم يصدر عن إيران موقف رسمي من الطلب الروسي، إلّا أن وزير خارجيتها، حسين أمير عبد اللهيان، عزا تباطؤ المفاوضات إلى «مسائل مستجدّة يطرحها الجانب الأميركي»، مشدّداً على أن «بعض القضايا المتعلّقة بأبطالنا الوطنيين غير قابلة للنقاش». ومن بين الطلبات الجديدة التي يصرّ عليها الأميركيون، دخول إيران في حوار حول قضايا المنطقة كشرط لرفع العقوبات عن الحرس الثوري، الأمر الذي يرفضه الوفد الإيراني المفاوض بشدّة. ومن هنا، جاء بيان الخارجية الفرنسية الذي تحدّث عن تضاؤل إمكانية الوصول إلى اتفاق.
وبالعودة إلى روسيا، وعلى رغم انقسام الإيرانيين في النظرة إليها ما بين كونها حليفاً استراتيجياً أو مجرّد «سمسار» في مفاوضات فيينا النووية (ثمّة محطات مهمّة تخلّت فيها موسكو عن طهران، وبخاصة في ما يتّصل بعقوبات مجلس الأمن الدولي عليها، والتباطؤ في تسليم محطة بوشهر الكهروذرية من قِبَل المهندسين الروس والتي استغرقت سنوات، وكذلك تأخير تسليم منظومة «S 300» الصاروخیة الروسية، بالإضافة إلى مخزون من الشكوك والحذر في الذاكرة الشعبية لدى الإيرانيين إزاء الجانب الروسي المستعمِر الذي احتلّ شمال إيران لعقود)، إلّا أن إيران تنظر إلى مصالح أمنها القومي؛ فما يجمعها مع روسيا هو صراع مشترك مع الغرب وأميركا، وهي ترى في هذه اللحظة التاريخية فرصة لها لتطوير علاقاتها مع موسكو على غير صعيد، وتوجيه صفعة مؤلمة إلى واشنطن التي لا يثق بها الإيرانيون على أيّ حال.
* كاتب لبناني