رعت الرئاسة التركية، ما بين الـ16 والـ18 من الجاري، القمّة الثالثة للشراكة التركية - الأفريقية في إسطنبول، بعد أسابيع قليلة من حدثَين بارزَين على خطّ هذه العلاقات، تَمثّلا في عقْد منتدى أعمالٍ رفيع المستوى ركّز على الاستثمارات والتجارة المتبادلة بين الجانبَين؛ وجولةٍ أفريقية للرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، شملت أنغولا ونيجيريا وتوغو. رأت وسائل الإعلام التركية، في القمّة التي حضرها ممثّلون عن 39 دولة أفريقية وحملت عنوان «التنمية المشتركة والتعاون من أجل الرخاء»، انتقالاً من مرحلة المبادرة إلى مرحلة الشراكة، وهو ما عَزّزه أيضاً إعلان الخارجية التركية أن أنقرة تريد «مساعدة أفريقيا في تحقيق النجاح»، و«التوجُّه معاً نحو المستقبل»
توسّع الحضور التركي
يقوم نموذج «الازدهار الاقتصادي» الذي ينتهجه إردوغان، بغضّ النظر عن التدهور الحالي الكبير في سعر صرف الليرة التركية مقابل الدولار الأميركي، على زيادة صادرات بلاده ولا سيما في مجال الصناعات العسكرية، والتي تُعدّ القارّة الأفريقية سوقاً كبيرة محتملة لمختلف أنواعها. وبالفعل، فقد نما الوجود التركي في أفريقيا في ظلّ حُكم إردوغان، حيث ارتفع حجم التجارة الثنائية من 5.4 بلايين دولار في عام 2003، إلى 25.3 بليون دولار في عام 2020؛ كما ارتفع الاستثمار التركي المباشر في القارّة في الفترة نفسها من 100 مليون دولار إلى 6.5 بلايين دولار، مُتركّزاً في قطاعات التشييد والصُّلب والإسمنت، تليها قطاعات المنسوجات والأجهزة المنزلية والأجهزة الكهربائية.

راجعت أجندة قمّة إسطنبول التعاون بين تركيا والدول الأفريقية منذ القمّة التركية - الأفريقية في عام 2014 (أ ف ب)

وتُمثّل جنوب أفريقيا، حالياً، أكبر شريك تجاري لتركيا في القارّة (محلّ إثيوبيا قبل 2018)؛ إذ وصل حجم التجارة الثنائية بينهما إلى 1.3 بليون دولار في عام 2019، لكن إثيوبيا لا تزال تستضيف أكبر عدد من الشركات التركية التي توظّف نحو 20 ألف إثيوبي، واستقطبت وحدها قرابة ثلث الاستثمارات التركية في أفريقيا جنوب الصحراء. وقدّمت تركيا، في مسعًى لتعزيز قوّتها الناعمة أفريقياً، أكثر من 14 ألف منحة علمية للطلّاب الأفارقة منذ عام 1992، كما تدير نحو 175 مدرسة تركية في القارّة، التي بلغت قيمة إجمالي المشروعات التركية المُنجَزة فيها حتى نهاية العام الجاري نحو 70 بليون دولار، فيما بلغت الصادرات التركية إلى أفريقيا في عام 2020 وحده 15 بليون دولار. والجدير ذكره، هنا، أن إردوغان كان أعلن رغبة بلاده في مضاعفة حجم تجارتها الثنائية مع أفريقيا لتصل إلى 50 بليون دولار.

خطّة 2021 - 2026
راجعت أجندة قمّة إسطنبول (التي كانت مُقرَّرة في أعوام سابقة وأُجّلت في عام 2019 على خلفية التوتر مع مصر التي كانت تتولّى رئاسة الاتحاد الأفريقي، ثمّ في عام 2020 على خلفية تداعيات جائحة «كوفيد - 19»)، التعاون بين تركيا والدول الأفريقية، منذ القمّة التركية - الأفريقية الفائتة في عام 2014، ووضعت إطاراً للمُضيّ في عملية الشراكة خلال الأعوام الخمسة المقبلة (خطّة العمل المشتركة للشراكة التركية - الأفريقية 2021 - 2026)، بما يشمل عدداً من المشروعات التي تستهدف القطاع الخاص مباشرة. وتُغطّي الخطّة عدّة مجالات، أبرزها: السلام والأمن والحوكمة، التجارة والاستثمارات والصناعة، التعليم ومهارات التكنولوجيا والابتكار، تنمية الشباب والنساء، تطوير البنية الأساسية والزراعة، ودعم نظم صحّية متماسكة. ووقّعت تركيا، بالفعل، مذكّرة تفاهم مع أمانة منطقة التجارة الحرّة القارّية الأفريقية، فيما أعلن رئيسها أن بلاده «ستشارك 15 مليون جرعة لقاح مع الدول الأفريقية في الأشهر القليلة المقبلة»، ريثما تنتهي من تطوير لقاحٍ تركيّ الصنع.

صناعة السلاح
أكدت تركيا مراراً تفهّمها التحدّيات الأمنية التي تواجهها الدول الأفريقية، مِن مِثل «داعش» و«بوكو حرام» و«الشباب»، مُبديةً استعدادها لتوظيف «تكنولوجيتها العسكرية المتقدّمة» في مساعدة تلك الدول على «مواجهة الإرهاب». وفي خلال القمّة الأخيرة، جدّد إردوغان جاهزية بلاده لتقديم هذه التكنولوجيا لـ«الأشقّاء الأفارقة». وإلى جانب الحضور التركي العسكري عبر قاعدة تدريبٍ هي الأكبر من نوعها في العاصمة الصومالية مقديشو، تمكّنت أنقرة، هذا العام، من تحقيق اختراقات في العديد من الأزمات الأفريقية، وتوسيع أسواق سلاحها بشكل عَدّه مراقبون مُهدِّداً لحصّة روسيا، التي تقترب من نصف أسواق السلاح في أفريقيا جنوب الصحراء، وحصص بعض الدول الأخرى كفرنسا والصين، إذ استطاعت صناعة الدفاع التركية فتْح أسواق لصادراتها في أوغندا وكينيا (التي أعلنت في العام الجاري عن مشتريات عربات تركية مسلّحة بقيمة 73 مليون دولار) وأنغولا، وإقامة مصانع عسكرية في نيجيريا، وتوقيع إعلانات مشتركة لمحاربة التنظيمات الإرهابية مع رؤساء دول مِن مِثل توغو وبوركينا فاسو وليبيريا. واتّضحت نجاعة سياسات تركيا العسكرية والأمنية في القارّة، في إعلان العديد من الدول الأفريقية رغبتها في شراء مُسيّرات «بيرقدار TB2»، وتَمكُّن أنقرة من بيع مُسيّرات قتالية لكلّ من المغرب وتونس (أيلول) وأنغولا.
تمكّنت تركيا من توسيع أسواق سلاحها في أفريقيا بشكل عَدّه مراقبون مُهدِّداً لحصّة روسيا

أمّا نيجيريا، التي زارها إردوغان أخيراً وتُواجه «أزمة إرهاب» بالغة الخطورة منذ أكثر من عقد من دون تحقيق تَقدّم يُذكر في مواجهتها، فقد دعت خلال القمّة، تركيا، إلى تقديم دعم واضح للمساعدة في «هزيمة الإرهاب والعنف» في أفريقيا. أمّا بخصوص منطقة حوض النيل والبحر الأحمر، فقد تَمثّل التطوّر الأبرز في توقيع أنقرة اتفاقاً للتعاون العسكري مع أديس أبابا، مطلع العام الجاري، خلال زيارة لرئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، للأولى، لتتوالى التقارير مذّاك عن حصول إثيوبيا على مسيّرات تركية ساهمت في صدّ هجوم المعارضة المسلّحة على العاصمة، بينما لاحظت «جمعية المُصدّرين التركية» أن مبيعات السلاح والمعدّات الجوّية لإثيوبيا ارتفعت من نحو 235 ألف دولار في كانون الثاني 2021، إلى نحو 94.6 مليون دولار في تشرين الثاني، في توقيت متزامن مع التغيّر العملياتي لمصلحة القوات الفيدرالية الإثيوبية. وبالإجمال، يرى محلّلون أن مشاركة عدد كبير من رؤساء الدول الأفريقية في القمّة الأخيرة، مدفوعة بالأساس بالسعي إلى شراء معدّات عسكرية بأسعار ومشروطيات أقلّ. وعليه، يبدو أن أحد أهمّ قطاعات النشاط التركي في المرحلة المقبلة، سيكون القطاع الدفاعي، الذي يمثّل مجالاً واعداً وجديداً، ولا سيما أن تركيا حقّقت تقدّماً ملحوظاً في تصنيع مُسيّرات «بيرقدار TB2»، التي ثَبُتت قدرتها على ترجيح قوّة أطراف في أزمات مِن مِثل ليبيا.

خلاصة
تُواصل تركيا محاولاتها الخروج من العزلة ومفارقةَ السياسات الفاشلة في ملفّات إقليمية واقتصادية عديدة، عبر طُرق متنوّعة، من بينها توسيع نفوذها في القارّة الأفريقية، كما اتّضح من النشاط الديبلوماسي التركي هناك طوال العام الجاري. وتُمثّل القمّة التركية - الأفريقية الأخيرة مشروعاً طموحاً للغاية للاستفادة من المُقدَّرات الاقتصادية المتبادلة بين الجانبين، لكن يبدو أن الرافعة الأساسية لذلك الحراك التركي تتمثّل في التعاون العسكري والأمني، وتعزيز صادرات السلاح التركية إلى الدول الأفريقية، والتي تَوسّعت خريطتها شمالاً وغرباً وشرقاً، على نحو يدلّ على نجاح تركي لافت في هذا المجال، من دون إغفال تأثير التحوّلات في السياسة الخارجية التركية، مِن مِثل التقارب مع الإمارات وتخفيف التوتر مع فرنسا، في إتاحة مجال أكبر لحركة أنقرة أفريقياً، وتعزيز ما تراه الأخير «ديبلوماسية الفوز للجميع».