لم يكن لقاء الساعة الذي جمع الرئيسَيْن التركي رجب طيب إردوغان والأميركي جو بايدن، في روما، مفيداً سوى لناحية مواراة الخلافات المتنامية بين البلدَين، في شتّى الميادين، وآخر مظاهرها تلويح أنقرة بطرد عشرة سفراء غربيين، من بينهم سفير واشنطن، على خلفية قضيّة عثمان كافالا. لهذا، لم يخرج الاجتماع "المنتظَر"، والذي لم يكن محلَّ رضى تركي، بأيّ حلول للقضايا الكثيرة العالقة. وإذ أعاد إردوغان التلويح بورقة تنامي العلاقات مع الروس، فقد أمكن بايدن، هذه المرّة، استغلال الخلاف بين تركيا وروسيا حول البطريركية الأرثوذكسية، في مسعًى منه إلى استمالة كنيسة اسطنبول في مواجهة كنيسة موسكو
على رغم تشكّكه في إمكانية حصول اللقاء مع نظيره الأميركي جو بايدن، على هامش قمّة "مجموعة العشرين" في روما، إلّا أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، كان متيقّناً، وفق مسؤول أميركي، من أن اللقاء سينعقد في غلاسكو، على هامش قمّة المناخ. على أيّ حال، التقى الرجلان في العاصمة الإيطالية، بعدما كثرت الشائعات عن أن لا رغبة لدى بايدن في الاجتماع إلى إردوغان. لهذا، يُعدّ مجرّد انعقاد اللقاء والتقاط الصور، مكسباً وفق المقاييس التي يضعها هذا الأخير. ولعلّ عودته المفاجئة من روما إلى أنقرة، وتغيُّبه عن قمّة غلاسكو، يفسّران الهدف الوحيد من مشاركته في "قمّة العشرين"، أي لقاء بايدن، وهو ما يعكس، وفق مراقبين، حاجة الرئيس التركي إلى إتمام هذه القمّة، وسط تكدّس الملفات العالقة بين البلدين. وكان للندن روايتها حول عدم حضور إردوغان قمّة المناخ، عندما قالت إنها ترفض توفير الحماية الكبيرة لأسطول السيارات الذي يرافقه، والذي وفّرته مثلاً للرئيس الأميركي، ما أغضب الأوّل، فعاد إلى بلاده على عجل. وظُهر الأحد، أُعدَّ للقاء مع الرئيس الأميركي كان يُفترض أن يستمرّ لـ20 دقيقة، ما دفع مراقبين إلى التساؤل عن جدوى انعقاده لمدّة قصيرة جدّاً. لكنّ استمراره لأكثر من ساعة، جعل المحيطين بالرئيس التركي "يتنفّسون الصعداء"، مع التذكير بأن اللقاء الذي جمع إردوغان بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، في سوتشي، مطلع الشهر الماضي، واستمرّ على مدى ثلاث ساعات، جعل مراقبين يشكّكون في ما إذا كان الوقت المذكور كافياً لبحث الملفّات الكثيرة العالقة بين البلدين، فكيف إذاً بالساعة التي جمعت إردوغان وبايدن؟
تشير التقديرات، هنا، إلى أن القمّة كانت، إلى حدٍّ بعيد، بروتوكولية و"غير مثمرة"، ولا سيما أنها عُقدت بحضور وزيرَي خارجية البلدَين، وهو ما يقلِّل من دقائق الحوار المباشر بين الرئيسَيْن. وعلى رغم كثرة الموضوعات العالقة بين أنقرة وواشنطن، من مسألة طائرات "إف-35" والآن "إف-16" وصواريخ "إس-400" الروسية، مروراً بدعم الولايات المتحدة للأكراد في سوريا، وصولاً إلى مشكلتَي "بنك خلق" وفتح الله غولِن وقضية حقوق الإنسان، وليس انتهاءً باعتقال عثمان كافالا وأزمة السفراء العشرة، إلّا أن صدور تصريحات متباينة من قِبَل الطرفين يظهر أنه ما من موضوع حُسم في أيٍّ من القضايا المختلَف عليها، إذ لفتت أنقرة إلى أن اللقاء ركّز على تقوية العلاقات التركية - الأميركية، وعلى أن "حلف شمال الأطلسي" هو القاعدة التي تستند إليها الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، متحدّثة عن اتفاق الجانبين على تشكيل "آلية مشتركة" لتطوير العلاقات بينهما، فيما ذكر الجانب الأميركي أن بايدن تباحث مع إردوغان في شراء تركيا طائرات "إف-16"، وأبدى قلقه إزاء مسألة صواريخ "إس-400" وحقوق الإنسان.
تعكس تصريحات إردوغان عدم رضًى تركي عن نتائج اللقاء مع بايدن


وبالعودة إلى تصريحات إردوغان التي أعقبت القمّة، يتّضح أنها عكست عدم رضًى تركي على نتائج اللقاء، خصوصاً عندما تحدّث عن أن دعم واشنطن للأكراد في سوريا، لا يمكن أن يستمرّ بالشكل الحالي. وتَبرز، في هذا الإطار، الحملة التي شنّتها وسائل إعلام تركية مؤيّدة لحزب "العدالة والتنمية"، على مواقف واشنطن من العديد من القضايا المتّصلة بأنقرة، إذ اعتبر مراسل صحيفة "ميللييت" في روما، علي تشينار، أن اللقاء كان "بنّاءً، لكن بلا نتائج"، على الرغم من أن مسؤولاً تركيّاً ذكر أنه تمّ في مناخ إيجابي. ورأى السفير التركي السابق في واشنطن نامق طان، من جهته، أن مجرّد حصول اللقاء أمر مهمّ، كونه طرح المسائل العالقة على الطاولة، لكنه أعطى انطباعاً بأن لا نتائج فعلية، وأن على البلدين أن يديرا الخلافات بينهما لا أكثر، مستدركاً بأنه ليست هناك أيّ انتكاسة جديدة، أي أن الوضع يراوح مكانه. ولفت السفير إلى أن البيان الأميركي لم يُشِر إلى استحداث "آلية مشتركة" لتطوير العلاقات بين البلدين، مضيفاً أن شراء تركيا دفعة ثانية من صواريخ "إس-400" سيعقّد علاقاتها مع الولايات المتحدة. وعلى المنوال نفسه، اعتبر السفير السابق سليم ينيل، أن المشكلات بين البلدَين لا تكفيها ساعة لحلّها. لذلك، تُراوح الأمور مكانها، "والإيجابية الوحيدة هي حصول اللقاء. وربّما يلي ذلك استمرار التواصل على مستويات عليا، وهو ما ترغب فيه تركيا".
من جهته، أشار الكاتب مراد يتكين إلى أن الولايات المتحدة والغرب قلقان من التقارب التركي مع روسيا والصين. وإذ يواصلان انتقاد أنقرة في قضيّة حقوق الإنسان (عثمان كافالا والسفراء العشرة)، إلّا أنهما لا يريدان تشديد الضغوط عليها، ويحرصان على عدم خسارتها. وهذه الورقة، وفق يتكين، "يلعبها إردوغان جيّداً... وربّما كان بوتين هو الورقة السرّية التي لعبها خلال محادثاته مع بايدن". وتحدّث يتكين، في مقالة أخرى، عن موقع البطريركية الأرثوذكسية التركية في العلاقات التركية - الأميركية، وفي الصراع بين أميركا وروسيا، لافتاً إلى أن اللقاء جاء وسط استعار الخلاف بين الكنيسة الأرثوذكسية التركية والكنيسة الروسية، التي لا تعترف بأولوية كنيسة اسطنبول، بل تعتبر أنها هي الأولى والأهمّ، لأن معظم الروم الأرثوذكس يعيشون في روسيا. ومن هنا، تلعب الولايات المتحدة لعبة استمالة كنيسة اسطنبول في مواجهة كنيسة موسكو. لكنها ورقة يلعبها بايدن أيضاً في مواجهة إردوغان، خصوصاً في ظلّ استمرار إغلاق السلطات التركية "معهد هايبلي أضه" لتخريج رجال الدين المسيحيين منذ أكثر من 50 عاماً، بذريعة إخضاع التعليم كلّه للدولة. وفي هذا الإطار، استقبل بايدن بطريرك الروم الأرثوذكس في تركيا، بارثولوميوس، في البيت الأبيض، في 25 تشرين الأول الماضي، أي قبل أيّام من لقائه إردوغان. ولا يُستبعد أن يكون وضع "معهد هايبلي أضه" وأوضاع الأوقاف المسيحية في تركيا جزءاً من ملفّ الأقليات الذي يرفعه في وجه تركيا وإردوغان.