أعلنت الحكومة الإسرائيلية، أخيراً، أنها صدّقت على تخصيص موازنة تبلغ ملياراً ونصف مليار دولار أميركي، مُقسّمة على عامَين، بهدف بناء قدرة عسكرية على توجيه ضربات وجمع معلومات استخبارية وإحباط مركّز، إضافة إلى التأسيس لخيارات هجومية عسكرية مباشرة، من شأنها إنهاء التهديد النووي الإيراني. إعلانٌ تنبع أهميته من كونه يأتي في سياق الجمود الحاصل في المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة، في ظلّ سعي واشنطن للعودة إلى اتفاق عام 2015 من دون تأخير، مقابل ما تقول إنها «مماطلة» إيرانية من شأنها أن تنهي أيّ فائدة من الاتفاق نفسه، بعد أن تجاوزت طهران ما كان محظوراً عليها سابقاً. على أن الإعلان الإسرائيلي، القديم الجديد، يكتسب هذه المرّة معانيَ مغايرة عمّا سبقه من تلويح متكرّر بخيارات تردّد صداها في تل أبيب منذ عقود، ووصل إلى ذروته في العقد الأخير، بدءاً من عام 2011، حيث سادت عبارة «كلّ الخيارات موجودة على الطاولة»، حتى تحوّلت إلى عادة إسرائيلية، في مقاربة الشأن النووي الإيراني. بالطبع، تخطّت إيران خطوطاً حمراء معلَنة من جانب إسرائيل، فيما اكتفت الأخيرة بإزاحة تلك الخطوط مع كلّ تجاوز إيراني لها، ليظلّ الثابت «الخيار الموجود على الطاولة»، والذي يتجدّد التهديد به مع كلّ تطوّر في برنامج طهران النووي. فما هي حقيقة الإعلان الجديد؟ وما الداعي للعمل على إيجاد قدرة هجومية لعامَين مقبلين، إذا كان الخيار العسكري موجوداً أصلاً؟بدايةً، يجدر القول إنه ليست لدى إسرائيل القدرة المادّية على تفعيل خيارات عسكرية في مواجهة البرنامج النووي الإيراني. واللاقدرة هنا ليست نتيجة اختلال معادلة الجدوى والكلفة (الكلفة أعلى من الجدوى)، أو انتفاء القرار السياسي أو العسكري، بل نتيجة فقدان الخيار نفسه، وبطبيعة الحال فقدان قرار تنفيذه. تستطيع إسرائيل توجيه ضربة من هنا وضربة من هناك، أو استهداف أشخاص أو خطفهم أو إحداث إزعاج تكتيكي ما، سواء في الساحة الإيرانية نفسها، أو في خارجها، إلّا أن القدّرة المادية على إنهاء البرنامج النووي الإيراني عسكرياً مفقودة، علماً أنه لا يمكن مقارنة ما لدى إيران حالياً في المجال النووي بما كان لدى العراق عام 1981؛ إذ في حينه كانت ضربة جوّية واحدة وُجّهت إلى منشأة تموز (أوزيراك) ودمّرتها بالكامل، توازياً مع انكفاء المشغّل الخارجي، والمقصود هنا فرنسا، عن استئناف العمل في المنشأة، كفيلَين بإنهاء البرنامج النووي العراقي، وهو ما لا ينطبق البتّة على الحالة الإيرانية. في الوقت نفسه، فقدان الخيار لا يعني بالضرورة فقدان ما قد يوصل إلى نتيجته؛ إذ إن لدى الحليف الأميركي خياراً مادّياً مجدياً، بإمكان تل أبيب أن تراهن على دفْع واشنطن إلى تفعيله، وهو ما مثّل موضع قلق أميركي طوال الأعوام الماضية.
ما تريده إسرائيل يتمثّل في توريط الولايات المتحدة في مواجهة مع إيران، عبر تنفيذ «عمل عدائي» ضدّ الأخيرة


ما تريده إسرائيل، هنا، يتمثّل في توريط الولايات المتحدة في مواجهة مع إيران، عبر تنفيذ «عمل عدائي» ضدّ الأخيرة، ومن ثمّ جرّ الأميركيين إلى تفعيل خياراتهم العسكرية بوجه الجمهورية الإسلامية. على أن للخيار «التوريطي» مقدّمات مشتركة بين عدد من الأطراف المتضادّة، بما يصعّب مسبقاً تقدير مدى إمكانية تَحقّقها، وبالتالي النتائج التي قد تنجم عنها. فعلى إسرائيل أن تكون لديها القدرة على توجيه ضربة عسكرية كفيلة بدفْع إيران إلى الردّ، لا على الكيان العبري فقط، بل أيضاً على الوجود الأميركي في المنطقة، بما يدفع واشنطن إلى الردّ على طهران، ومن ثمّ التدحرج إلى مواجهة، تأمل تل أبيب أن تنتهي بحرب تقضي لا على البرنامج النووي الإيراني فقط، بل النظام الإيراني نفسه. لكن الولايات المتحدة لا تريد، على أيّ حال، التورّط في حرب مع إيران، ليس لأنها لا ترغب في تحمّل كلفة حرب كهذه فحسب، بل لأن النتيجة أيضاً غير مضمونة من جانبها، وهي التي لديها سوابق في منطقة شكّلت ساحة لمغامراتها، في دول أقلّ وزناً وشأناً وقدرة من إيران، من دون أن تستحصل أميركا على النتائج التي هدفت إليها منها، لتخرج في نهاية المطاف خاسرة. وتلك الحقيقة هي التي تضغط على إسرائيل، إذ إن الجهة التي تقرّر مسار المواجهة ومستواها ونوعها وشدّة تطرّفها، هي الولايات المتحدة، التي ثَبُت لتل أبيب، في الأسابيع الأخيرة، أنها غير مستعدّة وغير راغبة في البحث في خيارات عسكرية، مهما كانت نتائج المفاوضات غير المباشرة مع إيران. وما يصعّب المعادلة هو أن إسرائيل لم تُقدِم، منذ قيامها، على مخالفة إرادة الولايات المتحدة وقراراتها وتوجّهاتها، أو توريطها في ما لا تريد، لا في الصغيرة ولا في الكبيرة.
بناءً على تلك المقدّمات الواضحة، يمكن تقرير نتائج بالوضوح نفسه:
أوّلاً: يتعذّر على إسرائيل أن تقرّ أمام جمهورها، وأمام حلفائها، وكذلك أمام أعدائها، أنها فشلت في مواجهة إيران، وأن الأخيرة باتت دولة عتبة نووية، على رغم كلّ الجهود التي بذلتها تل أبيب وحلفاؤها ضدّ طهران.
ثانياً: يتعذّر على إسرائيل أيضاً أن تقرّ بأنها لا تملك خياراً عسكرياً في مواجهة إيران النووية، إذ إن إقراراً كهذا يزيد من الفشل ويضاعفه أضعافاً، وهو ما ستتجنّبه تل أبيب إلى الحدّ الذي يفوق قدرتها على التجنّب.
ثالثاً: يمثّل التهويل ضرورة حيوية في السياق الإسرائيلي في هذه المرحلة، ليس لطمأنة الداخل فقط إلى أن لدى الحكومة خيارات متطرّفة ضدّ إيران، بل لتوظيفه في السياق الإيراني أيضاً، في اتّجاهات ثلاثة. أوّلها، التأكيد للذات وللآخرين أنها لا تستسلم في مواجهة إيران، مهما بلغت إنجازات الأخيرة في مواجهة الخيارات الأميركية والإسرائيلية التي فُعّلت بإفراط ضدّها. وثانيها، تخويف الجانب الإيراني على نحو تُقدّر تل أبيب أنه سيفيد المفاوِض الأميركي ويمكّنه من تحصيل ما أمكن من تنازلات إيرانية، وهو ما تعتقد أنه يجب أن يمثّل جزءاً لا يتجزّأ من المفاوضات، وتعيب على واشنطن تجنّبه حتى الآن. على أن الإعابة هذه تبدو في غير محلّها؛ إذ يدرك الأميركيون أن للتهويل فوائده، إلا أنهم يسألون أنفسهم: ماذا لو هوّلنا ضدّ إيران، وبقيت ثابتة على موقفها، بل وتجاوزت ما نهوّل به؟ في تلك الحالة، سيكون الضرر على المفاوض الأميركي أعلى وأشمل، كون تهديده لن يتحوّل إلى فعل مادّي عدائي. في الاتجاه الثالث، وهنا المفارقة، تراهن إسرائيل على أن يثمر التهويل بوجه الحليف الأميركي نفسه، جرّه إلى موقف أكثر صلابة ضدّ إيران، بتخويفه من توريطه في مواجهة في حال قرّر التنازل، وهو رهان يبدو مشبعاً بالتعقيدات التي تجعله غير قابل للتحقّق.
بالنتيجة، فشلت إسرائيل في معركتها ضدّ البرنامج النووي الإيراني، فشلاً ذريعاً. وثَبُت أن قدرتها على الإزعاج و«سرقة» ضربة من هنا أو هناك، لا تعني القدرة على تحقيق إنجازات استراتيجية. والفروق بين المطلبين، كبيرة جدّاً.