مع استعادة اليسار قوّته في أميركا اللاتينية وخصوصاً فنزويلا، واستمرار التحوّل في موازين القوى العالمية لغير مصلحة الولايات المتحدة، وجدت كاراكاس الفرصة سانحة لإعادة ترتيب بيتها الداخلي مع المعارضة، خصوصاً بعد فشل الأخيرة، ومِن خَلفها واشنطن، على مرّ سنوات، في إطاحة النظام الاشتراكي القائم بزعامة نيكولاس مادورو. وعلى رغم أن المفاوضات الجارية بين الطرفين في المكسيك لم تفضِ إلى الآن إلى نتائج جوهرية، ولا سيما لناحية رفْع العقوبات الأميركية، إلا أن الحكومة الفنزويلية استطاعت جنْي ثمار سياسية مهمّة، عَكَستها عودة عشرات الدول الغربية إلى الاعتراف بشرعيتها، مقابل نفض يدها من خوان غوايدو
بعد ثلاث سنوات من إطلاق الولايات المتحدة وحلفائها مشروع الإطاحة بالرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، والانقلاب على النظام الاشتراكي في كاراكاس، يبدو أن الأزمة السياسية في هذا البلد اللاتيني بدأت تتّخذ منحى الحلحلة، وفق ما أظهرته نتائج جولات المفاوضات الثلاث التي أُجريت في المكسيك بين الحكومة والمعارضة منذ منتصف الشهر الماضي، وأفضت إلى الاتفاق على الذهاب نحو انتخابات تشريعية وبلدية في نهاية العام الحالي، وإنشاء آليات حوار لتلبية حاجات السكّان الاجتماعية والاقتصادية، ومواجهة وباء «كورونا»، والتعامل مع ملفّ المهاجرين. اتّفاقٌ دفعت في اتّجاهه أسبابٌ كثيرة، بعدما حملت الطرفين على العودة إلى طاولة المفاوضات، إثر فشل جولات كثيرة سابقة في أعوام 2016 و2018 و2019.
بالنسبة إلى الحكومة، فهي أرادت، من خلال الانخراط مجدّداً في الحوار، فكّ العزلة الدولية المفروضة عليها والسعي إلى رفع العقوبات الأميركية عنها خصوصاً بالنظر إلى الآثار البالغة السلبية التي خلّفتها تلك العقوبات على السكان، الأمر الذي أعلنه صراحةً مادورو نفسه ومسؤولون فنزويليون آخرون. أمّا المعارضة، فسعت إلى تحقيق مطلبَين رئيسَين: إعادة تقوية موقعها في المشهد السياسي بعدما أضعفه فشلها في إطاحة الرئيس، وانتزاع أكبر قدْر من التنازلات من الحكومة خصوصاً لناحية إجراء انتخابات رئاسية، والتخلّي عن السيطرة على شركة النفط الوطنية. وفي ذلك ما ينمّ عن «طروحات غير منطقية»، وفق السفير الفنزويلي لدى لبنان، خيسوس غريغوريو غونساليس، الذي يؤكد، في حديث إلى «الأخبار»، أن هذه الشروط «لن تتمّ تلبيتها تحت أيّ ضغط، وخصوصاً لناحية انتهاك دستور البلاد الذي ينصّ على إجراء انتخابات رئاسية كلّ ست سنوات»، لافتاً إلى أن محادثات المكسيك تُعدّ عملياً محادثات مع الولايات المتحدة، بالنظر إلى أن زعيم المعارضة خوان غوايدو وفريقه يحملان مطالب واشنطن. ولأنها كما وصّف غونساليس بالفعل، فمن الجدير الالتفات إلى دوافع الولايات المتحدة، والغرب عموماً، من ورائها.
منذ بدء المفاوضات، اعترفت أكثر من 33 دولة أوروبية وغربية بشرعية الحكومة


يريد الأميركيون، من خلال إعادة إطلاق قطار التفاوض، استدراك فشلهم في إحداث أيّ تغيير حقيقي في فنزويلا لمصلحتهم، على رغم سلسلة الإجراءات العقابية والمحاولات الانقلابية التي قادوها ضدّ كاراكاس، والحفاظ على ما تبقّى لهم من مصالح أو أدوات ضغط في هذا البلد. ولذا، فإن واشنطن لا تمانع حتى «إعادة تبادل السفراء مع فنزويلا»، وفق ما أكد السفير الأميركي في فنزويلا، القاطن في بوغوتا منذ عام 2018، جيمس ستوري، والذي أنبأ تصريحه، إلى جانب تصريحات مسؤولين أميركيين آخرين، بمدى تعويل إدارة جو بايدن على هذه المفاوضات. وعلى رغم أن الطرفين لم يُحقّقا بعدُ أيّاً من أهدافهما الكبرى، إلّا أن الحكومة تبدو إلى الآن رابحاً أوّل، وهو ما عكسه بدء استعادتها شرعيتها الدولية، من خلال سحب بعض الدول اعترافها بغوايدو الذي كان نصّب نفسه رئيساً للبلاد، واعتراف غوايدو نفسه ومِن خَلفه حلفاؤه الأميركيون بفشل سياسة الضغوط القصوى ضدّ مادورو، فضلاً عن تجدّد النشاط الدبلوماسي للرئيس الفنزويلي والذي تُوّج بحضوره قمة «سيلاك» التي عُقدت في المكسيك، ومشاركته في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الأسبوع الماضي، حيث التقى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، وجدّدا التزام بلدَيهما بعلاقات تجارية ثنائية أقوى على الرغم من المحاولات الجارية لعرقلتها، مؤكّدَين توقيع اتفاق لمبادلة النفط الفنزويلي الثقيل بمكثّفات إيرانية، في ما عُدّ تحدّياً واضحاً للعقوبات الأميركية.
بناءً على ما تقدّم، يعتقد غونساليس أن المفاوضات الأخيرة «ساهمت بشكل كبير في تغيير صورة الحكومة الفنزويلية في العالم لناحية الشرعية»؛ إذ إنه منذ بدئها، عادت أكثر من 33 دولة أوروبية وغربية إلى الاعتراف بشرعية الحكومة، وهو ما استنفر واشنطن وحلفاءها اليمينيين، مِن مِثل الرئيس الكولومبي إيفان دوكي، الذين عادوا لمهاجمة مادورو، ومخاطبة غوايدو باعتباره الجهة الشرعية للحُكم في البلاد. لكنّ السفير الفنزويلي لا يَعدّ ذلك أكثر من محاولة لـ«التشويش على المفاوضات»، منبّهاً إلى أن أحد أهمّ إنجازات الحكومة في المحادثات كان اعتراف الفريق المعارض بالانتخابات المقبلة التي ستُجرى في شهر تشرين الثاني المقبل. وحول التنازلات التي قدّمتها الحكومة، قال غونساليس إن كاراكاس ارتأت أن «تمنح المعارضين مقعداً إضافياً في المجلس الوطني للانتخابات الذي يضمّ خمسة أعضاء»، وبالتالي أصبح لها مقعدان مقابل ثلاثة للحزب الحاكم. وفي انتظار استكمال المحادثات، التي يبدو أنها زادت الأمور تعقيداً بالنسبة إلى المعارضة، يرى متابعون أن الولايات المتحدة لن تغامر بتخريب الحوار الآن، خصوصاً مع علمها أنه في حال الإخفاق في التوصّل إلى نتائج ملموسة، فإن فرصة استئنافه لن تتكرّر قبل أواخر عام 2023 أي بعد إجراء الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي يعني إعطاء مادورو مزيداً من الوقت لترسيخ حكمه في السنتين المقبلتين.



المكسيك وسيطاً موثوقاً
تلعب المكسيك دوراً بارزاً خلال المفاوضات الفنزويلية، أهّلها له تمتّعها بثقة الطرفَين، الحكومة والمعارضة على السواء، وإسداؤها خدمات لكلتيهما طيلة السنوات الثلاث الماضية. فهي كانت قد ساعدت كاراكاس في بيع نفطها عبر شبكة من الشركات المحلية، فيما أقامت علاقات جيّدة مع خوان غوايدو على رغم عدم اعترافها به رئيساً انتقالياً، وتوسّطت في الإفراج عن العديد من المعارضين، واستضافت آخرين منهم مراراً. كذلك، حظيت المكسيك بثقة الولايات المتحدة، وهو ما تجلّى في تولّيها مهمّة التنسيق مع البيت الأبيض خلال جولات التفاوض الثلاث منذ منتصف آب الماضي، علماً أن رئيسها اليساري أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، يجاهر برفض السياسة الأميركية المتّبعة في القارة اللاتينية. وتطمح المكسيك إلى لعب دور دبلوماسي وازن في القارّة الجنوبية، ومن هذا المنطلق جاءت استضافتها قمّة مجموعة دول أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي (سيلاك) الأسبوع الماضي، واقتراح رئيسها استبدال «منظّمة الدول الأميركية» المدعومة من واشنطن، بمجموعة «سيلاك» التي لا تضمّ كندا والولايات المتحدة، وتأسيس تكتّل إقليمي مماثل للاتحاد الأوروبي، وضمان احترام سيادة دول المنطقة، وتوطيد العلاقات بين دولها.
(الأخبار)