غداً، لن تغادر أنجيلا ميركل مقرّ المستشارية الألمانية (Bundeskanzleramt)، ولن تبتعد عن الأضواء، كما أنها لن تتخلّى عن حرسها والمسؤولين عن أمنها. هي، ستعود كما في كلّ يوم من السنوات الـ16 التي قضتها في السلطة، إلى شقّتها القديمة الكائنة في مدينة برلين، حيث اختارت البقاء مع زوجها بدلاً من المقرّ الرسمي، بوجود أمن مرئي وحيد هو ضابط شرطة أمام المبنى. المستشارة الألمانية ستنسحب من الحياة العامّة، تاركة الساحة لخليفتها، من دون ضجّة أو إعلام، مثلما كانت خلال فترة إدارتها للذراع التنفيذية في إحدى أبرز الدول الأوروبية. مردّ ذلك ليس في كونها لا تحبّ الأضواء فقط، إنّما في أنها ـــ شأنها شأن العديد من السياسيين الألمان ـــ تفتقر إلى الجاذبية وموهبة الثرثرة، وتفضّل التصريحات السريعة والرصينة على الخطَب الطويلة. ولسنوات، ظلّ التحدّث أمام الجمهور مربكاً بشكل واضح بالنسبة إليها، فيما كانت يداها مصدراً خاصاً لهذا الإحراج، قبل أن تتعلّم في النهاية أن تجمع أطراف أصابعها معاً على شكل مثّلث فوق بطنها، في مشهد سيتذكّره كلّ من رأى صورة لها وحيدة، أو مع غيرها من قادة الدول.من بين القادة الألمان، تُمثّل ميركل شذوذاً ثلاثياً: امرأة (مطلّقة، متزوّجة من جديد، ليس لديها أطفال)، عالمة (كيمياء الكمّ)، وأوسي (أي من ألمانيا الشرقية). هذه الصفات، على الرغم من أنها جعلت منها دخيلة على عالم السياسة الألمانية، ساعدت أيضاً في دفع صعودها الاستثنائي الذي يَسِمه أيضاً وجْه شذوذ رابع على حزبها (الاتحاد الديمقراطي المسيحي) الكاثوليكي في ألمانيا الغربية، بينما هي امرأة بروتستانتية من ألمانيا الشرقية الشيوعية. بعد فوزها في انتخابات متقاربة وحصولها على أغلبية حاكمة في عام 2005، طوّرت ميركل أداءها سريعاً، مُقدّمة خطاباً سياسياً أكسبها العديد من نقاط القوّة، خصوصاً لناحية تناول مسائل الحرية والديمقراطية، وهي التي نشأت في ظلّ «نظام ديكتاتوري»، فضلاً عن أن حقيقة كونها «دخيلة» اجتذبت إليها، على عكس ما كان متوقّعاً، تعاطفاً حقيقياً في أوساط «المحرومين». خلال السنوات الأخيرة، وفي أحلك أيام رئاسة دونالد ترامب، بدت ميركل كآخر شخص بالغ على الساحة السياسية الغربية، مقابل ولايات متحدة بقيادة متطرّف، ومملكة متحدة في حالة من الفوضى، لتبدو وكأنها «زعيم العالم الحرّ». هذه الصورة «البطولية» تجعل كثيرين الآن، في وقت توشك فيه المرأة على التنحّي عن المنصب الذي شغلته على مدار الـ16 عاماً الماضية ـــ عندما تولّته، كان أقرانها الدوليون هم جورج بوش الابن وتوني بلير وجاك شيراك وسيلفيو بيرلسكوني ـــ قلقين في شأن اليوم التالي، بينما يذهب كثيرون إلى أن شيئاً لن يتغيّر، لتبقى أسئلة كثيرة معلّقة من بينها: أيّ إرث تترك ميركل؟ وهل تستحقّ أن تُدعى مستشارة عظيمة فعلاً؟ من سيقوم مقامها في قيادة الاتحاد الأوروبي؟ وهل ستتألّق ألمانيا بعد اعتزالها؟
قياساً بكلماتها كانت ميركل قائدة رائعة ولكن بناءً على أفعالها فإنّ سجلها غير متكافئ


الواقع أن العديد من النقاط التي تُسجَّل لصالح ميركل، يمكن أن تُحسب ضدّها أيضاً. فهي شخصية لم تترك وراءها إرثاً واضحاً، كما أنها لم تملك رؤية يمكن البناء عليها لمواصلة مسيرة ما، سواءً في الداخل أو على مستوى الاتحاد الأوروبي أو حتّى على مستوى العالم. على الصعيد المحلّي، برز عدد قليل من إنجازاتها، بما في ذلك إدخالها، في عام 2009، كبح الدين عبر الدستور، الأمر الذي يضمن ميزانيات متوازنة؛ وقرارها، عام 2011، التخلّص التدريجي من الطاقة النووية، بعد كارثة فوكوشيما اليابانية؛ ثمّ قرارها، عام 2015، تجاوز قواعد الاتحاد الأوروبي بشأن طالبي اللجوء، وفتح حدود ألمانيا لأكثر من مليون لاجئ من سوريا وأماكن أخرى. على المستوى السياسي، أمضت ميركل الكثير من فترة ولايتها في الحكم ضمن ائتلافات كبيرة، لا سيما مع «الحزب الاشتراكي الديمقراطي» المعارِض (SPD) من يسار الوسط. ومن خلال استمالة مباشرة للعديد من الأفكار الشعبية التي طرحها هذا الحزب ـــ بما في ذلك الحدّ الأدنى للأجور ومعاشات التقاعد الأكثر سخاء ـــ احتلّت ميركل بذكاء مركز السياسة الألمانية، ما جعلها قوة انتخابية مهمّة. أسلوبها التوافقي، وطريقتها في تبنّي مقترحات خصومها، سمحا لمرشّح «الحزب الديمقراطي الاشتراكي» لمنصب المستشار ووزير المالية الحالي، أولاف شولتز، بالادّعاء أنه بدلاً من أرمين لاشيت من حزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي»، هو الوريث الحقيقي لميركل! وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، عُرف عنها إصرارها على سياسة التقشّف والإصلاح الهيكلي، أثناء أزمة ديون منطقة «اليورو»، والتصميم على استكمال خطّ أنابيب الغاز الطبيعي المثير للجدل «نورد ستريم 2» مع روسيا، وقبولها أخيراً بديون الاتحاد الأوروبي المشتركة، ضمن معالجة التداعيات الاقتصادية لجائحة «كوفيد - 19». أمّا على المستوى الدولي، فصحيح أن ميركل، بالمقارنة مع القادة الشعبويين الأقوياء، مثل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، أو الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، أو رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، بدت وكأنها مثال للقيادة العقلانية والثابتة، ولكنها طالما كانت ميّالة إلى إعطاء الأولوية المنهجية للمصالح التجارية والجغرافية الاقتصادية الألمانية، على «قيَم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتضامن داخل الاتحاد الأوروبي»، بل إن البعض يرى أنها على الرغم من إظهارها اهتمامها بتلك القيم، إلّا أنها لم تفعل شيئاً ثميناً للدفاع عنها أثناء وجودها في المنصب. وفي ظلّ حكم خليفتها، من المرجّح أن تستمرّ ألمانيا في الجمع بين الحديث المتعقّل، والرغبة في الدخول في صفقات مع «المستبدّين».
هكذا، يمكن القول إن ميركل، قياساً إلى كلماتها، كانت قائدة رائعة، ولكن بناءً على أفعالها، فإن سجلها في أحسن الأحوال غير متكافئ. فتحت قيادتها، فشلت ألمانيا في مواجهة تحدّيات عدّة خلال العقدين الماضيين، يلخّصها ياسكا مونك، في مجلّة «ذي أتلانتك» بثلاثة: الأول، جاء بعد بدء الركود العظيم، عندما دخلت بلدان أوروبية عدة دوّامة خطيرة من الديون. حينها، كان من الممكن أن يعرض «زعيم حاسم» (أي ميركل مثلاً) على تلك البلدان خطّة إنقاذ سخية، أو بدلاً من ذلك، يدفعها إلى الخروج من منطقة العملة الموحّدة تماماً، لكن ميركل انتهجت خطّاً ثالثاً ترك آثاراً بالغة السلبية على العديد من الدول الأوروبية، لا تزال ماثلة إلى الآن. الثاني، برز مع صعود «الشعبويين الاستبداديين» في أجزاء كبيرة من أوروبا الوسطى، وتحديداً فيكتور أوربان، الذي أصبح رئيساً لحكومة المجر. آنذاك، كان بإمكان الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على المجر لوقف انزلاق البلاد نحو «الاستبداد»، إلا أن ميركل عارضت الخطوات الهادفة إلى محاسبة أوربان، وسمحت لحزبه بالبقاء عضواً في «الفصيل الديمقراطي المسيحي» في البرلمان الأوروبي. وبناءً عليه، يشير الكاتب إلى أن المجر «لم تعد دولة حرّة، كما قام زعماء اليمين المتطرّف الآخرون بمحاكاة نموذج أوربان». ونتيجة لذلك، «يستطيع المستبدّون حماية بعضهم البعض، من خلال استخدام حقّ النقض ضدّ أيّ عقوبات قد تسعى بروكسل إلى فرضها عليهم». لذا، «لم يعد الاتحاد الأوروبي نادياً للديمقراطيات». أمّا التحدّي الثالث، فظهر عندما دفعت الحرب في سوريا ملايين الأشخاص إلى البحث عن ملاذٍ في أوروبا؛ إذ إن رفض ميركل ابتداءً إغلاق الحدود الألمانية أمام هؤلاء أثار إعجاباً بها في جميع أنحاء العالم، لكنها في الواقع لم تكن المدافعة المبدئية عن حق اللجوء، وفق ما أظهرها احتفاء وسائل الإعلام بها. وعلى الرغم من أنها استمرّت في رفض القول إنها ستوقف في النهاية موجة اللاجئين ـــ وهو إحجام ساهم بشكل كبير في صعود البديل اليميني المتطرّف ـــ فقد فعلت في الواقع ما في وسعها لإبقائهم خارج بلادها. وهنا، يشير مونك إلى أنه «بفضل سلسلة من الصفقات مع الحكّام المستبدّين، مثل رجب طيب أردوغان في تركيا، استعانت ألمانيا بمصادر خارجية للعمل القذر المتمثّل في جعل حدودها غير قابلة للاختراق». لذلك، على الرغم من استمرار قبولها رسمياً للاجئين، فإن الغالبية منهم يجدون الآن أنه من المستحيل الوصول إلى ألمانيا.