يبدو أن إسرائيل ورئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، كانا من أشدّ الخائبين بسقوط الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. ولا ينتقص هذا الشعور السائد في تل أبيب من صهيونية الرئيس الجديد، جو بايدن، كما يقول هو عن نفسه، إلا أن ما قَدّمه الأول للدولة العبرية، وتحديداً لنتنياهو، في أكثر من محطة، يجعل من «أقلّ الواجب» أن يتأخر رئيس الحكومة الإسرائيلية، ومعه وزير الأمن بني غانتس، ووزير الخارجية غابي أشكنازي، لساعات طويلة، في تقديم التهنئة لبايدن. وفي تفسير ذلك، تمحورت الفرضيات حول خشية نتنياهو من ردّة فعل ترامب، وأيضاً لكونه لا يزال «يحلم على ما يبدو بهدية وداع ما» من الرئيس المنتهية ولايته، وخاصة أنه لا يزال أمام الأخير أكثر من شهرين في منصبه.ومع أن إسرائيل تدرك أن الأولويات الداخلية ستكون هي الشاغل الرئيس لإدارة بايدن، إلا أنها ستراقب بحذر مواقف هذه الأخيرة من القضية الأهمّ بالنسبة إلى القادة السياسيين والأمنيين في تل أبيب، والمقصود بها الاتفاق النووي مع إيران، والمسار التعاظمي لقدرات محور المقاومة. أمّا بالنسبة إلى قضية التسوية، فالترجيحات تدور حول أن تكون المراوحة هي السمة التي ستغلب على هذا المسار، مع ما يعنيه ذلك من استمرار الاحتلال والاستيطان، وفي المقابل عودة الرهانات ــــ الأوهام لدى بعض العرب والفلسطينيين.
وإذا ما أريد الوقوف على مكامن القلق الإسرائيلي من مرحلة حكم بايدن، يبدو ضرورياً تحديد معالم الواقع المستجدّ على المستويين الإيراني والإقليمي، والذي يفرض نفسه على كلّ من واشنطن وتل أبيب. بالمقارنة مع الظروف التي كانت قائمة عشية الاتفاق النووي عام 2015، لم تنجح الرهانات الإقليمية والأميركية والإسرائيلية على «داعش» وإخوته، حتى في السقف الأدنى عبر تحوّلها إلى عامل استنزاف دائم لمحور المقاومة إلى درجة إضعافه؛ إذ تمّت إزالة سيطرة تلك التنظيمات على مساحات واسعة من سوريا والعراق، وتحصين لبنان منها. أيضاً، استطاع محور المقاومة تحقيق قفزات نوعية في مراكمة القدرات الاستراتيجية التي ترى تل أبيب فيها تهديداً لأمنها القومي، فيما لم ينجح الرهان الأميركي على إحداث تغيير جذري في الداخل الإيراني عبر الاتفاق النووي. كذلك، في مرحلة لاحقة، لم تنجح الرهانات الإسرائيلية على مفاعيل خروج إدارة ترامب من الاتفاق النووي، واعتماد سياسة «الضغوط القصوى» على إيران. فلا النظام الإيراني انهار، ولا خضع للشروط والإملاءات الأميركية، ولا شَنّت الولايات المتحدة حرباً عليه، وهو ما عبّر عنه التقدير الاستراتيجي الصادر عن «معهد أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب لعام 2020.
في السياق نفسه، أتى إقرار الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، على لسان رئيس قسم الأبحاث فيها العميد درور شالوم، في مقابلة مع صحيفة «يديعوت أحرونوت» (9/10/2020)، ليكشف مستوى خيبة الجهات المهنية في كيان العدو. إذ أكد أنه «حتى الآن، لم يَثبت أن الخروج من الاتفاق النووي خدم إسرائيل». والمشكلة، أيضاً، بحسب شالوم، أنه لا مؤشرات على إمكانية إخضاع إيران في الفترة القريبة، فهي «بعيدة عن الركوع. هي لم تِتراجع». وأجمل الرؤية الإسرائيلية الاستخبارية للاستراتيجية الأميركية المستقبلية بأنها «أقصى ضغط ــــ وصفقة». والسؤال هو: «هل نهاية الصفقة سوف تحمل لنا شيئاً جيداً».
الاستخبارات الإسرائيليّة: الإيرانيّون يقدّسون التعلّم ولديهم قدرات تكنولوجيّة متطوّرة


يبدو أن لا واشنطن ولا تل أبيب قادرتان على التسليم بالوقائع المتقدّمة وآفاقها المستقبلية. إذ إن إيران تعود بالتدريج إلى ما كانت عليه قبل الاتفاق على المستوى النووي، وجديدها في هذا المجال سَنّ مجلس الشورى قانوناً ملزماً للحكومة برفع مستوى التخصيب إلى 20% خلال الأشهر المقبلة، فضلاً عن أن عمليات التخصيب الأخرى لا تزال مستمرّة. أمّا قدراتها الصاروخية، وخصوصاً منها الصواريخ الدقيقة، فهي مع قدرات حلفائها في حالة تعاظم متواصل. وفي الإطار المتقدّم، نبّه رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات، في المناسبة ذاتها، إلى أن «الإيرانيين...جدّيون جدّاً، يقدّسون الحياة ويقدّسون التعلّم. ممنوع الاستخفاف بهم. اكتشفنا أن عندهم عملاقاً من القدرات التكنولوجية المتطورة: عالم الدقة، قذائف صاروخية، قطع طيران بدون طيار، صواريخ جوالة».
هذه التقديرات تؤكد حقيقة أن الطرفين الأميركي والإسرائيلي لا يختلفان على ضرورة تغيير هذا الواقع، لكن السؤال: كيف يمكن تحقيق ذلك؟ وهل إيران في وارد تعديل الاتفاق؟ وإلى أي حدود؟ وفي ضوء التجارب السابقة، هل يمكن المراهنة على تغيير موقفها من دعم قوى المقاومة في لبنان وفلسطين؟ ثمّ ماذا عن البدائل الواقعية؟ تكشف صحيفة «يديعوت أحرونوت» أنه «اتضح من اتصالات غير رسمية جرت أخيراً بين أعضاء في الفريق الذي يبلور السياسة الخارجية والأمنية لبايدن، وبين مسؤولين سياسيين رفيعي المستوى في إسرائيل، أن الإدارة المستقبلية تُعِدّ خطة لاستئناف المفاوضات مع إيران، وهذا موجود بأفضلية عليا». وتضيف الصحيفة إن «الاستراتيجية التي وضعها فريق بايدن تقوم على أساس مفاوضات مع الإيرانيين من خلال مرحلتين وقناتين منفصلتين: المرحلة الأولى هي ما بين دخول بايدن إلى البيت الأبيض (في كانون الثاني/ يناير المقبل) وانتخاب رئيس جديد في إيران في حزيران/ يونيو المقبل، والهدف منها التوصّل إلى تفاهمات مع الإيرانيين على تجميد الوضع في مجال نشر السلاح الباليستي والتدخل الإيراني الإقليمي والأنشطة النووية العسكرية. وفي المقابل، سيكون الأميركيون مستعدّين للتنازل عن العقوبات الأخيرة التي فرضها ترامب». وفي مرحلة ما بعد انتخاب رئيس جديد في إيران، «يعتزم الأميركيون إجراء مفاوضات حول اتفاق دائم ثانٍ في كلا المجالين، النووي والإقليمي. ويستعدّون لسدّ ثقوب الاتفاق الأصلي. لكن المرحلة الثانية قد تستمرّ لفترة طويلة، ويتمّ خلالها الحفاظ على العقوبات». وتنقل الصحيفة أيضاً أنه وفقاً لمفهوم غانتس، لا ينبغي رفض المحاولة الأميركية، لكن أيّ معادلة يجب أن تشمل، ليس فقط وقف تطوير السلاح النووي، وإنما نشر السلاح الباليستي في المنطقة بما يشمل مصانع تطوير دقة الصواريخ في لبنان، ووقف التدخل الإيراني في «الإرهاب ضدّ إسرائيل»، في إشارة إلى دعم قوى المقاومة في فلسطين.
في هذه الأجواء، من الطبيعي أن تعمد إسرائيل إلى رفع مستوى التهديد، ووضع نفسها في موضع المتوثّب للهجوم. وهذا ما يبدو أنها بدأت التمهيد له. مع ذلك، ومهما يكن نوع الخطاب الذي ستتبنّاه إسرائيل في مواكبة استراتيجية بايدن، فإن فشل إدارة ترامب في إخضاع إيران أو إسقاطها، وتعاظم المخاطر في البيئة الاستراتيجية للدولة العبرية بالمقارنة مع ما كان سائداً عشية الاتفاق النووي عام 2015، يجعلان أقصى ما تطمح إليه تل أبيب هو أن تقوم الولايات المتحدة بردع إيران عن هذا المسار، وهو ما لم تنجح فيه إدارة ترامب، عبر تبنّي سياسة «العقوبات القصوى»، والتهويل العسكري، ولا حتى بعد اغتيال قائد «قوة القدس» الفريق قاسم سليماني.
تدرك تل أبيب أن سابقة فشل خيارات ترامب القصوى لا يمكن تجاهلها بوصفها مؤشراً قوياً إلى استحالة إخضاع إيران، أو دفعها إلى تقديم تنازلات جوهرية تتّصل بقدراتها الصاروخية وموقفها من القضايا الإقليمية، وعلى رأسها قضية فلسطين ودعم قوى المقاومة. وبمعزل عن خيارات بايدن وروافعه في الضغط على طهران، ففي نهاية المطاف، سيجد نفسه أمام خيارين: إمّا الانتقال إلى سياسة أكثر هجومية، أو التراجع إلى سقوف أدنى. في ما يتعلّق بالخيار الأول، يؤكد رئيس «معهد أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب، اللواء عاموس يادلين، أن الحزبين الجمهوري والديموقراطي يتّفقان على مجموعة مبادئ، من ضمنها أنه «بعد 20 سنة من الحروب، لا مزيد من الحروب في الشرق الأوسط، وفي هذه النقطة بالذات يتموضع أوباما وترامب وبايدن في المكان نفسه فعلاً».
من هنا، تنبع المخاوف الإسرائيلية من أنه في ظلّ صمود محور المقاومة، والتزام إيران بمجموعة من الثوابت الاستراتيجية، واستعدادها لمواجهة الضغوط كافة، قد يعمد بايدن إلى تغيير توجّهاته الاستراتيجية بشكل واسع، وهو ما حصل مع الرئيس السابق باراك أوباما، عندما اختار التراجع إلى سقوف أدنى، بعدما تَبيّن له أن الإصرار على سقوفه العليا سيحول دون التوصل إلى اتفاق.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا