قبل أربع سنوات، وقبل سقوط دونالد ترامب على العالم، ظُنَّ أن تلفزيون الواقع يُنتج نجوماً لا رؤساء. بخفةٍ واستهزاءٍ كبيرَين، جرى التعامل مع ما بدا أنه ظاهرة سلكت طريقها لنيل ترشيح الحزب الجمهوري، وكسبت "قلوب" طيفٍ واسع من الأميركيين. لا "دخان أبيض" تصاعد من صناديق الاقتراع ليل الثامن مِن تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، ولا "مجانين" ليصدّقوا أن ذلك ممكناً. طوال "الفترة المظلمة"، كما سمّاها جو بايدن الواقف على عتبة البيت الأبيض، أبى مَن هم على الضفّة المقابلة للرئيس الحالي، إلّا أن يصنعوا واقعاً موازياً، يكون فيه ترامب: مرةً عميلاً روسياً، ومرّةً أخرى متآمراً لإطاحة خصمه، بايدن. انتهت كل مساعي "المقاومة" إلى لا شيء سوى تعميق الشرخ بين المعسكَرين الديموقراطي والجمهوري، وتوازياً الاجتماعي.لسببٍ ما، سلَّمت رئاسة أوباما - بايدن، باكراً، بأنها تغادر بعد ثماني سنوات مثقلةً بإنجازات - داخلية وخارجية - من شأنها أن "تُبقي الولايات المتحدة القوّة البارزة في العالم لعقودٍ قادمة"، على حدّ تعبير نائب الرئيس السابق في مقالته لدوريّة "فورين أفيرز" (عدد أيلول/ سبتمبر - تشرين الأول/ أكتوبر 2016). وإن خاب الرهان السابق لألف سبب، فاعتماد بايدن يقتصر، راهناً، ليس على برنامج عمل أو خطة استثنائية ستنتشل البلاد مِن أزماتها، ولكن على تأييد أميركيين ضاقوا ذرعاً بفترةٍ رئاسية واحدة لترامب. لا شكّ في أن بايدن يستند - حصراً - إلى الأجواء "الإيجابية" التي تبثّها استطلاعات الرأي حيناً، وإلى فشل خصمه على أكثر من مستوى، إن كان في الملف الصحّي أو انعكاساته على مستوى الاقتصاد الوطني. لذا، اختار بايدن خوض "معركةٍ من أجل روح الأمّة".

جو «العمّالي»
إلى ما سبق، يراهن بايدن على أن وسطيّته ستكسبه أصوات الناخبين، على رغم أنه لا يتبنّى قضايا عظيمة، ويحلم بالعودة إلى أيام "الإجماع" الجميلة. التمسُّك بوجهة النظر تلك، يوجب الإشارة إلى أن الأيام الخوالي لم تكن ودودةً بالمرّة. فـ"وسطيّة" الحزبَين، في ذروة صعود بايدن، كانت تعني قسوة متعمّدة ترعاها الدولة على نطاق يصعب فهمه، وتعني تمييزاً عنصرياً وعبودية مقنّعة، وتعني أيضاً الحبس الجماعي لأعداد هائلة من الأميركيين الذين (يصدف) أن غالبيتهم من مجتمعات السود، بتهمة تعاطي المخدرات (الكراك تحديداً). وكانت تعني "قانون 3 جرائم وستسجن مدى الحياة"، و«قانون العقوبة الحقيقية» (يفرض قضاء المجرمين 85% مِن محكوميتهم)، والتمويل غير المحدود لأقسام الشرطة، والطفرة في بناء السجون وخصخصتها. مع ذلك، أصرّ بايدن على أن يقول في مناسبات كتلك: "الحقيقة هي أن كلّ مشروع قانون خاص بالجرائم الكبرى منذ عام 1976 - وكلّ مشروع قانون خاص بالجرائم الصغيرة، يصدر عن هذا الكونغرس - يحمل عليه اسم السناتور الديموقراطي عن ولاية ديلاوير، جو بايدن". لن يكون سهلاً الفكاك مِن عقودٍ أمضاها السناتور السابق في تعزيز قبضة الدولة العقابية، وتشريع الظلم في حقّ الأقليات تحت عناوين شتّى، من "الحرب على الجريمة" إلى "الحرب على المخدرات". وهو إن نجح في إقناع الناخبين بأنه أفضل مَن سيقود الولايات المتحدة من بعد الكارثة التي حلّت عليها، فلن يفوز لأن الاستراتيجية القديمة نجحت، بل لأن الخصم هو ترامب.
بالنسبة إلى بايدن لطالما كانت انتخابات 2020 تدور في فلك ترامب


الشيء نفسه يمكن سوقه بالنسبة إلى علاقة ابن مدينة سكرانتون/ بنسلفانيا بـ"جذوره العماليّة". "جو الطبقة الوسطى"، كما كان يُطلَق عليه سابقاً، تواطأ في بداية التسعينيات وأوائل الألفية لتكريس تحرير وول ستريت باعتبارها قضية مقدسة للحزب الديموقراطي، ودعَم بعض الاتفاقات التجارية التي درّت أرباحاً هائلة على البنوك، على رغم أنها أسهمت في تدمير المنطقة الصناعية حيث نشأ. كلّ ذلك جاء نتيجة سياسات الإجماع في العاصمة واشنطن. لكن التوّجه الآنف لن يحمي بايدن الراهن، لأن الإجماع القديم تلاشى في السنوات القليلة الماضية، وذاب تماماً في الأشهر التي أعقبت مقتل جورج فلويد، حين تجلّى انقسام لن يكون بعض "الودّ" كافياً لمعالجة جذوره، والتي رسّخها "جو العمّالي" نفسه، في ما مضى.

المهمَّة واضحة!
بالنسبة إلى جو بايدن، لطالما كانت انتخابات 2020 تدور في فلك دونالد ترامب: فظاعاته وأكاذيبه وهجماته على ما يسمّيه "أسس الديمقراطية الأميركية". لا يملك نائب الرئيس السابق خطّة عمل واضحة. جلّ مهمته يقتصر على إزاحة الرئيس الحالي من المشهد. في خطاب قبوله الترشُّح أمام المؤتمر الوطني للحزب الديموقراطي، مساء الخميس، اعتبر بايدن أن "الرئيس الحالي حجب أميركا في الظلام لفترة طويلة جداً". وفي الدقائق الـ24 التالية، تحدّث عن "روح أميركا" والاختبار المؤلم الذي تواجهه. رسالته لم تتغيّر كثيراً منذ ربيع عام 2019، حين أطلق حملته في مقطع فيديو، وصف فيه ترامب بأنه "تهديد لهذه الأمة"، محذراً مِن أن انتخابات 2020 ستكون "معركة من أجل روح الأمة".
قبل أربع سنوات، في مؤتمر هيلاري كلينتون، في فيلادلفيا، كان الديموقراطيون يدركون جيداً مَن هو ترامب، لكنهم رفضوا تصديق احتمال فوزه. كانت السخرية في أوجها، ومعاملة ترامب تجري على أساس أنه "مزحة" نجحت في تأمين ترشيح الحزب الجمهوري. لم تكن هذه انتخابات حول أيديولوجيتين متنافستين، وفقاً للتقاليد الأميركية، كما قال أوباما في عام 2016، لكنها كانت "خياراً أكثر جوهرية حول هويّتنا كشعب".
مشكلة أوباما - بايدن لم تكن في أنهما لم يفلحا في إفشال خليفتهما، بل في إيمانهما المطلق بأنه سيخسر، لأن البلد كما يراه ترامب، والذي يمكن أن يصبح فيه شخص مثله رئيساً "ليس أميركا التي أعرفها"، كما لفت أوباما في حفل وداعه في عام 2016، وهو الخطاب نفسه الذي قال فيه: "أنا أكثر تفاؤلاً بالنسبة إلى مستقبل أميركا، أكثر من أيّ وقتٍ مضى".



صديق إسرائيل
خلال رحلته الأولى إلى إسرائيل في عام 1973، التقى جو بايدن رئيسة الحكومة آنذاك، غولدا مئير، التي حدّثته بالتفصيل عن "التهديدات الأمنية" في المنطقة، وذلك قبل أيام مِن "حرب أكتوبر". بايدن، المُنتخب حديثاً وقتها عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي، وصف اجتماعه مع مئير لاحقاً بأنه "كان من أكثر الاجتماعات أهمية" من حيث تأثيره على حياته. وظلّ طوال 40 سنة من مسيرته السياسيّة مدافعاً شرساً عن إسرائيل.
لم يكن خافياً التوتّر الذي شاب علاقة إدارة باراك أوباما مع نتنياهو. لكن بعض الخبراء يقدّرون أن فوز نائب الرئيس السابق سيكون موضع ترحيب مِن قِبَل المؤسّستَين السياسية والعسكرية في إسرائيل؛ لكونه مؤيّداً صريحاً للكيان، يَعتبر أن من واجب الولايات المتحدة التمسُّك "بوعدها المقدس بحماية وطن الشعب اليهودي". يمتدّ سجلّ مواقف بايدن في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي إلى ما قبل سنوات أوباما، إذ أيّد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل قبل عقدين، كما أيّد مشروع قانون أصدره مجلس الشيوخ عام 1995 يقضي بإقامة سفارة أميركية في القدس بحلول عام 1999. وتؤكّد حملة بايدن أنه، في حال انتخابه رئيساً، فلَن يعيد إلى تل أبيب السفارة التي نقلها ترامب إلى القدس، لكنه سيعيد فتح قنصلية في القدس الشرقية "للتواصل مع الفلسطينيين".
(الأخبار، أ ف ب)

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا