قبل أربع سنوات، ذكر الرئيس الأميركي، في حديث صحافي، أن «السلطة الحقيقية هي الخوف». لم يكن، كما أشار في حينه، يريد استخدام تلك الكلمة، وإن كان يعتقد بحقيقة تطويع الجمهور ومعه، ربّما، المؤسسات. رئيس «النظام والقانون»، كما دأب على طرح نفسه، يبدو أمام معركة جديدة خاسرة، بعدما قرَّر صمّ آذانه عن مطالب الاحتجاجات الآخذة في الاتّساع، على خلفيّة مقتل مواطن أسود. واختار، بدلاً مِن تهدئة الشارع في بلدٍ غارق في العنصرية، والتهديد باستخدام الجيش لفضّ التظاهرات، ووضع حدٍّ لأعمال الشغب المرافقة لها. تهديدٌ تلقّفته المؤسّسة العسكرية، وإن متأخّرة، معلنة النأي بنفسها عن «وعود» الرئيس غير الواقعية وعن كونها واجهة سياسية للإدارة، وسط تماهٍ بدا جلياً بين ترامب ورأس «البنتاغون»، مارك إسبر، الذي ظهر إلى جانب رئيسه، بينما كان يلوِّح بالكتاب المقدّس أمام كنيسة سانت جون.ليست وزارة الدفاع الأميركية مؤسّسة طيّعة يمكن استخدامها لغايات سياسية، كما حاول ترامب الإيحاء في الأيام الماضية. ربّما اعتقد الرئيس الأميركي أن سلطته «المطلقة» تتيح له استدعاء الجيش لوضع حدٍّ للشارع الملتهب، خشيةَ انفلاته. توجُّهٌ أسهمَ في ترسيخه وزير الدفاع الأميركي، مارك إسبر، الذي تحدَّث بداية الأسبوع الجاري عن السيطرة على ما سمَّاه «ساحة المعركة» لإعادة النظام، رداً على الاحتجاجات المتواصلة بزخم منذ مقتل جورج فلويد على يد الشرطة. وزاد القلق، انضمام إسبر ورئيس الأركان الأميركي، مارك ميلي، إلى ترامب لالتقاط الصورة الشهيرة أمام كنيسة سانت جون الأسقفية، بعد تفريق الشرطة متظاهرين كانوا يحتجون أمام البيت الأبيض، بالهراوات والغازات المسيلة للدموع، ليتمكّن الرئيس ورفاقه مِن سلك طريقهم إلى الصرح الديني سيراً على الأقدام، ومِن دون «عقبات». المشهد السوريالي لترامب ملوِّحاً بالإنجيل، واصطفاف «قادة» المؤسسة العسكرية إلى جانبه، استدعى تبريراً مِن قِبَل «مسؤول كبير» في «البنتاغون»، أوضح أن وجود إسبر وميلي «لم يكن طوعياً»، وأنهما «لم يكونا على علم بأن قوات الأمن قرّرت إخلاء المنطقة» بالقوّة. لكن حديث المسؤول لم يكن كافياً لتهدئه عاصفة الانتقادات التي انهالت على «البنتاغون»، ما اضطرّ وزير الدفاع، شخصياً، إلى عقد مؤتمر صحافي، ينأى فيه بوزارته عن كل ما يشيعه الرئيس، محاولاً الظهور بدور الضحية التي لا حول لها. وأكّد أنه يعارض نشر الجيش للسيطرة على الاحتجاجات عبر تفعيل «قانون التمرّد»، آملاً أن تبقى هذه المؤسّسة خارج العمل السياسي. وقال إن الحرس الوطني قادر على فرض القانون، وإن «خيار استخدام قوات في الخدمة يجب أن يكون الملاذ الأخير ويقتصر على الحالات الأكثر إلحاحاً والأخطر»، ولكنّنا «لسنا في وضع كهذا الآن». وعن ظهوره في صورة سانت جون، شدّد على أنّه والمسؤولين معه لم يكونوا على علم «بما كان ينوي الرئيس فعله عندما ذهبنا معه إلى الكنيسة». وكان الكونغرس انتزع القضية، إذ عبّر رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، آدم سميث، عن قلقه من الإدارة «الاستبدادية» للرئيس و«الطريقة التي تؤثّر فيها على حكم القيادة العسكرية»، مذكّراً بأن «دور الجيش الأميركي في حفظ النظام على الأراضي (الأميركية) محدَّد بموجب القانون» الذي يمنع استخدام جنود مِن القوات الفعلية في مهمّات لحفظ النظام، إلا في حالة حدوث عصيان.
استطلاع: 64% من الأميركيين البالغين «يتعاطفون مع مَن يخرجون للتظاهر في الوقت الحالي»


خطوة ترامب الدينية الاستعراضية لم تكن موفّقة، إذ إن الكنيستين البروتستانتية والكاثوليكية (فاز ترامب في انتخابات 2016 بدعم قويّ مِن الكاثوليك والإنجيليين البيض) في الولايات المتحدة وجّهتا انتقادات لاذعة للرئيس بعد تفريق التظاهرة بالقوّة أمام البيت الأبيض، مِن أجل التقاط صورة له أمام الكنيسة، ولاحقاً زيارة نصب تذكاري للبابا يوحنا بولس الثاني. وتوالت الانتقادات المندِّدة بتعامل ترامب مع الاحتجاجات الراهنة، إذ رفض أعضاء جمهوريون في مجلس الشيوخ تحرّكه لقمع المتظاهرين. وفي اليوم التالي لتهديده بإطلاق العنان للجيش، كانت ردود فعل الجمهوريين (بعضهم يدين الرئيس مباشرة، والبعض الآخر يحرص على إبداء وجهة نظر مختلفة)، قد بيّنت الخيار الهشّ الذي يواجهونه: بين تأييد نهج الرئيس المثير للانقسام، أو الانفصال عنه والمخاطرة بردّ فعل عنيف مِن الحزب قبل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية. السناتور عن ولاية نبراسكا، بن ساسي، قال إنه «لا يوجد حقّ في أعمال الشغب ولا حق في تدمير ممتلكات الآخرين... لكن هناك حق أساسي ودستوري في الاحتجاج، وأنا ضدّ قمع احتجاج سلمي لالتقاط صورة تتعامل مع كلمة الله على أنها دعامة سياسية». تعليقات تردّدت على لسان السناتور تيم سكوت (كارولينا الجنوبية)، الجمهوري الأسود الوحيد في مجلس الشيوخ، الذي استنكر الخطوة بدوره. ردّ فعل الرئيس الذي اتبع نهجاً حازماً إزاء ما يجري في بلاده، سلّط الضوء على رئاسة مأزومة لم تكن ينقصها، بعد الانهيارات التي خلّفتها الجائحة، سوى احتجاجات تفاقم أزمتها. أزمةٌ تجلَّت في استطلاع للرأي أجرته «رويترز/ إبسوس» وبيّن أن 64% من الأميركيين البالغين «يتعاطفون مع مَن يخرجون للتظاهر في الوقت الحالي»، بينما تعارض نسبة 55% طريقة تعامل ترامب مع الاحتجاجات. يضاف إلى ذلك اتّساع فارق تفوّق نائب الرئيس السابق، جو بايدن، على منافسه وسط الناخبين، إلى 10 نقاط مئوية، وهو أكبر هامش يُسجّل منذ أصبح نائب أوباما مرشَّح الأمر الواقع للحزب الديموقراطي، نظراً إلى عدم وجود بديل يُعجب المؤسسة. ويبدو أن هذا الأخير يسعى بدوره إلى استغلال الاحتجاجات لمصلحته، بهدف تغليب الصوت المعارض في رئاسيات 2020. وبعدما بقي محتجزاً في منزله لأكثر من شهرين بسبب «كورونا»، منحت الاحتجاجات المرشح الديموقراطي فرصة لاستقطاب الأضواء مجدداً، فتوجه إلى فيلادلفيا حيث ألقى خطاباً اتهم فيه ترامب بأنه «حوّل هذا البلد إلى ساحة معركة تملؤها أحقاد قديمة ومخاوف جديدة»، واعداً بفعل كل ما بوسعه من أجل «معالجة الجروح العنصرية». ولكنّه تذكّر: «لا يمكننا أن نكون سُذّجاً. كنت أتمنى أن أقول إنّ الكراهية بدأت مع دونالد ترامب وستختفي معه، لكن الحال ليست كذلك. هذا لن يحدث. التاريخ الأميركي ليس قصة خرافية تنتهي نهاية سعيدة مضمونة».