عندما أعلنت إدارة دونالد ترامب، في بداية عام 2018، تقاريرها الاستراتيجية الثلاثة: استراتيجية الأمن القومي واستراتيجية الدفاع الوطني والوثيقة النووية، جزم أغلب الخبراء في شؤون الأمن والدفاع والعلاقات الدولية بأنها تمثل منعطفاً في الاستراتيجيا العامة للولايات المتحدة على المستوى العالمي. ورأى هؤلاء أن التحولات الكبرى التي شهدها العالم في العقد الأخير، وأبرزها تراجع الهيمنة الأميركية وصعود دور لاعبين جدد غير غربيين، كالصين وروسيا، وهم بحسب تعبير تقارير «البنتاغون» «منافسون من المستوى نفسه»، فرضت مواجهتهم كأولوية على أجندة صنّاع القرار في واشنطن على حساب الأولويات الأخرى، وبينها «الحرب على الإرهاب» وما ترتّب عنها. وقد عزّزت مواقف ترامب وفريقه العنيفة حيال الصين الاعتقاد بوجود انسجام كامل بينهما وبين المؤسسة العسكرية، وبأن السياسات التي ستُعتمد ستكون خاضعة لأولوية التصدّي لها.التأزيم المتعمّد من قِبَل الإدارة مع إيران في الفترة الأخيرة، ودفع بعض أطرافها للجوء إلى خيار الحرب، كشف غياب مثل هذا الانسجام، وتعارض الرؤية الاستراتيجية العامة، التي كان لـ«البنتاغون» إسهام مركزي في بلورتها عبر تقاريره الثلاثة، مع سياسات الإدارة المحكومة بالمصالح الشخصية لبعض أفرادها، وبالانحيازات الأيديولوجية والعقائدية لبعضهم الآخر. وإذا كان نجاح الفريق الضيّق للرئيس، وعلى رأسهم صاحب العقلية التآمرية جون بولتون، في خلق الفراغ من حوله، واستبعاد ممثّلي وزارتَي الخارجية والدفاع من عملية صنع القرار، يفسّران جزئياً هذا المآل، فإن تحوّلات بنيوية طويلة الأمد، سابقة لوصول ترامب إلى السلطة، طرأت على عملية صناعة القرار ومشاركة المؤسّسات المختلفة فيها، وتحديداً مجلس الأمن القومي الذي تضخّم دوره مع مرور الزمن، كانت أيضاً عاملاً حاسماً في ما جرى الوصول إليه.

حرب البنتاغون مع الصين لا إيران
أي تقييم جدّي لنتائج ما سُمّي الحرب على الإرهاب، أي سلسلة الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في «الشرق الأوسط الكبير» كما يقول خبراؤها، هو سلبي بالضرورة. فحرب العراق الطويلة والدامية، وتلك المستمرّة في أفغانستان، وهي الأطول في تاريخ الحروب الأميركية، كان لهما تداعيات بالغة السوء على صورة جيش واشنطن وهيبته على المستوى الدولي، وبالتالي على هيمنتها المرتكزة أساساً عليه. كبار المفكّرين والخبراء، من أمثال زبغنيو بريجنسكي وبرنت سكوكروفت وبعدهم ريتشارد هاس، حذّروا مبكراً، مع بدايات التورّط الأميركي في «وحول الشرق الأوسط»، من هذا الأمر، لكنهم لم يجدوا آذاناً صاغية. القادة العسكريون بدورهم توصّلوا بسرعة إلى الاستنتاجات نفسها. وقد عكست التقارير الثلاثة التي أصدرتها إدارة ترامب عام 2018 قناعاتهم.
يقول مايكل كلير، الخبير البارز في الشؤون الاستراتيجية، في مقال نشره أخيراً على موقع «توم ديسباتش»: «بعد سنوات من النزاع المضني مع حركات التمرّد والجهاديين عبر الشرق الأوسط الكبير، يحرص الجيش الأميركي على الاستعداد لقتال منافسين من المستوى نفسه كالصين وروسيا، وهما بلدان يفرضان برأيه تحدّياً متعدّد الأبعاد للولايات المتحدة. هذا التصوّر المستقبلي الجديد يستند إضافة إلى ذلك، إلى قناعة بأن حرب أميركا التي لا تنتهي على الإرهاب قد استنفدت قوّة جيشها، وهو أمر واضح بالنسبة إلى القادة الروس والصينيين الذين استفادوا من انهماكها في ذلك لتحديث جيوشهم وتطوير منظومات سلاحهم». بكلام آخر، شكّل الغرق الأميركي في حروب لا تنتهي فرصة استراتيجية نادرة لدول كالصين وروسيا لتسريع عملية بناء قدراتهما في العقدين الماضيين، ما أفسح المجال لتحولهما إلى لاعبين دوليين من الدرجة الأولى. ويذكّر كلير بخطاب شديد الأهمية لوزير الدفاع الأميركي السابق، جايمس ماتيس، يعتبر فيه أن «الوقع السلبي على الجاهزية العسكرية، الناجم عن أطول فترة قتال مستمرّ في تاريخ أمّتنا، بات بادياً على جيش يعاني من الانتشار العسكري الزائد ومن نقص حادّ في الموارد... بينما الصين تقوم بتحديث قوّاتها العسكرية التقليدية لدرجة تسمح لها بتحدّي التفوّق العسكري الأميركي. ليس للولايات المتّحدة سوى خيار واحد: إعادة توجيه قدراتها للتركيز على التنافس بين القوى العظمى. هذا التنافس، وليس الإرهاب، هو الأولوية المحورية بالنسبة إلى الأمن القومي الأميركي». ويقول كلير إن أي حرب محتملة مع الصين وروسيا، من منظور قادة البنتاغون، قد تنفجر في جوارهما المباشر لتمتدّ بعد ذلك إلى أراضيهما، وستتضمن مواجهات برية وبحرية وجوية وفضائية وسيبرانية في الآن نفسه، ما يفسّر ميزانية الدفاع الضخمة لعام 2020، التي خصّصت 58 مليار دولار لسلاح الطيران، و35 ملياراً للبحرية و14 ملياراً لأنظمة الدفاع الفضائية، و10 مليارات للحرب السيبرانية، و4.6 مليارات للذكاء الاصطناعي، و2.6 مليارات للأسلحة الخارقة لسرعة الصوت.
في ضوء هذه المعطيات، من الطبيعي ألّا يبدي البنتاغون أي حماسة لحرب جديدة مع إيران، ستتحوّل بالضرورة إلى نزاع مديد وغير متوازٍ يصعب التنبّؤ بمداه الزمني والجغرافي وبأكلافه. العسكريون الأميركيون يفضّلون ما يظنّونه حروباً سريعة تُستخدم فيها التكنولوجيا المتطوّرة ضدّ منافسيهم الدوليين، تتيح في حال انتصارهم فيها تجديد هيمنتهم الأحادية، وعندئذ لن يكون أمام القوى الإقليمية المتوسّطة، كإيران، سوى خيار الاستسلام لشروطهم.

مجلس الأمن القومي أو المجمع «الفكري ــــ العسكري»
قيل الكثير عن دور الزمرة العائلية ــــ العقائدية ــــ الأيديولوجية المحيطة بترامب في دفعه إلى خيار حافّة الحرب مع إيران. لكن تحوّلات مؤسّساتية بنيوية طرأت على عملية صناعة القرار في ميدان السياسة الخارجية على مدى عقود في الولايات المتحدة سمحت لمثل هذه الزمرة، وحتى لـ«فرانكشتاين صغير» كمحمد بن زايد، بأن يمتلكا تأثيراً استثنائياً على رئيس ديمقراطية «عريقة». كتاب صدر في واشنطن هذه السنة بعنوان «محاربو البيت الأبيض ــــ كيف غيّر مجلس الأمن القومي النمط الأميركي للحرب»، لجون غانس، يقدّم معطيات شديدة الأهمية عن التعاظم المستمرّ على مدى عقود لتأثير هذا المجلس على بلورة السياسة الخارجية وإدارتها اليومية. وقد استند مؤلف الكتاب، الذي عمل في وزارتَي الدفاع والخزينة، إلى أرشيف رسمي كبير، وإلى مقابلات كثيرة مع العديد من المسؤولين. يربط غانس بين إنشاء مجلس الأمن القومي عام 1947 وبين الصراع مع الاتحاد السوفياتي، العدوّ «الشمولي» الذي قد لا تتيح عملية صناعة القرار في مؤسسات «الديمقراطية الأميركية» البطيئة والثقيلة وغير المسؤولة أحياناً التصدّي له بالسرعة والفعالية المطلوبتين. وإذا كان المجمع الصناعي ــــ العسكري ينتج الأسلحة التي تستخدمها الإمبريالية الأميركية، فإن المجلس، أو المجمع الفكري ــــ العسكري، ينتج المفاهيم التي تحدّد مكان استخدامها.
هو يرى أن تعيين الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، لهنري كيسنجر مستشاراً للأمن القومي، شكّل نقطة التحوّل في تاريخ المجلس الذي منحه، بموافقة الرئيس، سلطة مراجعة وقبول أو رفض أفكار مؤسّسات الدولة الأخرى واقتراحاتها، وتقديم أفكار جديدة للرئيس إذا بقيت الاقتراحات البديلة غير مناسبة برأيه، أي، بكلام آخر، الحلول في مكان وزارة الخارجية أو الدفاع في لحظات الأزمة. ويشير غانس إلى أنه على الرغم من النتائج الكارثية للسياسات التي أوصى بها المجلس تحت إشراف كيسنجر، كتوسيع حرب فيتنام التي انتهت إلى هزيمة منكرة، فإن دور المجلس كرّسته جميع الإدارت المتتالية، من كارتر مروراً بريغن ووصولاً إلى ترامب. رئيس المجلس اليوم هو جون بولتون، الرجل الذي يحلم بقصف إيران منذ عام 2002 على الأقل. قد لا ينجح في إقناع رئيسه بالشروع بذلك، لكن بحسب دانييل بيسنر في «النيو ريببليك»: «إذا استدنا إلى السوابق التاريخية، فعلينا أن نشعر بالتوتّر الشديد».