يصادف في 14 نيسان (أبريل) المقبل الذكرى التاسعة لوفاة المسرحي اللبناني ريمون جبارة (1 أبريل 1935 ــــــ 14 أبريل 2015) الذي يُعدّ من روّاد المسرح اللبناني الطليعي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فيما بدأ «مسرح مونو» أخيراً بتوجيه تحية إلى المسرحي المتمرد تحت عنوان «4 لريمون». المشروع عبارة عن إعادة إنتاج أربع مسرحيات كتبها جبارة هي: «تحت رعاية زكور» (إخراج غابريال يمين)، ومسرحية «بيك نيك ع خطوط التماس» (إخراج جوليا قصار) بين 10 و 18 آذار (مارس)، ومسرحية «زرادشت صار كلباً» للمخرج أنطوان الأشقر التي ستُعرض بين 20 و27 آذار (مارس) و«قندلفت يصعد إلى السماء» للممثل والمخرج رفعت طربيه (30 آذار إلى 7 نيسان). ولد ريمون جبارة في قرية شهوان (قضاء المتن في محافظة جبل لبنان)، لعائلة فقيرة، عاش طفولة هادئة بسبب إصابته بالملاريا، فالمرض يجعل من الطفل عاقلاً على حدّ تعبيره مرةً، مستذكراً تربيته من قبل الراهبات، ومشاغباته مع أطفال القرية أثناء اللعب التي ناقضت صورته الهادئة في المنزل. هذه التفاصيل أثّرت في حياة ريمون ورؤيته إلى العالم كمثقف وكفنان يرى بأنّ المخمل لا يقدّم فناً، بل سلطةً، إنّما الفن يخرج أصيلاً من منابع الألم والمعاناة. كما حضر المرض حتى في كبره، إذ عاش غالبية حياته مصاباً بشلل نصفي. نرى أثر المرض في مقالاته ومسرحياته، فيقول: «عندما تنظر إلى مسرحياتي ترى تفاصيل من ريمون جبارة في كل واحدة منها».
ريمون جبارة عام 2015 بعدسة المصوّر والفنان جيلبير الحاج

ورغم عدم حصوله على شهادة جامعية، إلا أنه أصبح أستاذاً جامعياً للمسرح في «جامعة الكسليك» وكلية الفنون في الجامعة اللبنانية في فرن الشباك ما بين عامَي 1969 و 1999.
بدأ رحلته الفنية في 1960 كممثل في فرقة «المسرح الحديث» بقيادة الراحل منير أبو دبس، مقدماً أدواراً مهمة كراسكولينكوف في «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، وشخصية كريون في مسرحية «أنتيغون» لسوفوكليس وريتشارد الثالث في مسرحية «ريتشارد الثالث» لشكسبير وغيرها.
بدأ بتأسيس عالمه المسرحي في التأليف والإخراج عام 1970 بمسرحية «لتمت ديسدمونة» وأنتج بعدها في السبعينيات والثمانينيات أعمالاً كثيرة يُعدّها النقاد نقطة تحوّل في المسرح اللبناني المعاصر مثل «زرادشت صار كلباً» (1977)، و«دكر النحل» (1982)، و«صانع الأحلام» (1985) متعاوناً مع جيل من الممثلين البارزين: الراحلين رضا خوري وفيليب عقيقي، كميل سلامة، رفعت طربيه، جوزف بونصّار، والجيل اللاحق غابريال يمين، وجوليا قصار ورندا الأسمر.
بعد انقطاعه سنوات عن المسرح، عاد في بداية التسعينيات مع «مَن قطف زهرة الخريف؟» التي رآها كثيرون من النقاد وصيته الأخيرة بسبب العالم المأساوي المرير التي تصوره المسرحية. اعتمدت مسرحياته على عدة نصوص عالمية، لكن وفقاً لوصف جبارة لعمله على هذه النصوص، فقد تعدّت مفهوم الاقتباس إلى مفهوم إعادة الكتابة، لتكون نصوصاً جديدة أصيلة بالسياق الاجتماعي والثقافي اللبناني تعبّر عن همومه وذاته كفنان.
كما أخرج الكثير من النصوص لكتاب آخرين كـ «مسرحية صيف 840» (1985) لمنصور الرحباني، و«مسرحية يوسف كرم» (1994) لأنطوان غندور وغيرها الكثير. شغل الكثير من المناصب الأخرى كرئيس لـ «مؤتمر المسرح اللبناني» عام 1982، ومستشاراً لأعمال فرقة «كركلا» عام 1990، ومديراً عاماً لتلفزيون لبنان.
ينتمي جبارة إلى جيل مثقفين شهدوا تحولاً كبيراً في واقع المنطقة بين ستينيات النهضة الثقافية والمشاريع السياسية والأحزاب ذات الهم الثقافي التي اتسقت في فترة عودة المسرح مع صعود الاشتراكية واليسار، وحركة الموسيقى والطباعة والنشر وحركة الفنانين التشكيليين، وصولاً إلى سبعينيات القرن التي تعدّ بداية الانهيار ودخول لبنان في الحرب الأهلية.
نرى هذا التحول ما بين النهضة والحرب في مشروع جبارة الثقافي ورؤيته العدمية للعالم ورأيه السياسي الإشكالي، فقد عاشت المنطقة مأزقاً تاريخياً خلال التحول الكبير الذي خلق إرباكاً كبيراً لا بد له من أن ينعكس على المشهد الثقافي والاجتماعي، وهذا ما سنحاول التقاطه في مشروع جبارة المسرحي الذي قد يتناقض مع بعض أفكاره السياسية: ناقش جبارة في مسرحياته العديد من الموضوعات المهمة كالقلق والتوتر، الموت والرغبة، السلطة والتاريخ، والخوف على أنّه آفة وجودية، ضمن قالب فني عبثي، يعتبره الكثير من النقاد من رواد مسرح العبث اللبناني. وفي سؤاله عن خياره في العبث، أجاب مرةً بأنّ العبث ظهر بعد الحرب العالمية الثانية كحركة رفض على عبث الوجود والسلطة والحرب، وما خياره بالعبث إلا رفض لواقع المنطقة العبثي وحروبها التي بلا هدف أو جدوى، فقد خلق جبارة عوالم مسرحية متناقضة بين السخرية والتراجيديا، بين الوهم والواقع، تتسم بالألم والخيبة في قالب من العبثية التي تبرّر كل هذه التناقضات.
شيّد عوالم متناقضة بين السخرية التراجيديا، بين الوهم والواقع، تتسم بالألم والخيبة


بالعودة إلى رؤية جبارة العدمية التي ترى بأنّ الحياة ما هي إلا عقاب، نجد نفساً ساخراً في هذه الرؤية يظهر في جوابه على سؤال «لماذا تعمل في المسرح؟» في إحدى المقابلات التلفزيونية، فيجيب «لأنه ما بعرف اعمل غيره». لكن موقفه الساخر لم يقتصر على حسه العدمي تجاه الحياة، بل عُرف بهذا النفس الذي تُرجم بالنقد اللاذع للوضع السياسي والمعيشي في لبنان عبر مقالاته مع ملحق جريدة «النهار» الثقافي، وعُرف أيضاً بمعارضته الشديدة للتواجد السوري والفلسطيني في لبنان خلال الحرب الأهلية وما بعدها، إلى درجة تعرضه للكثير من الانتقادات والاعتراضات على رأيه الذي قد يصل حدّ التطرف والعنصرية تجاه السوريين والفلسطينيين، ما قد يخلق صورةً بعيدة عن صورة المسرحي الذي يناقش هموم الإنسان المعاصر في عالم الفقر والسلطة، كما يطرح أسئلة عدة عن دور الفنان السياسي والاجتماعي، ومناقشة خطابه المباشر وغير المباشر ومدى تكاملية الدور الفني والسياسي والاجتماعي الذي طرح مشكلات عامة عن الإنسان في كل زمان ومكان، ونقد خصوصية سياقه الاجتماعي والسياسي الضيق.
إلا أنّ صورة ريمون جبارة راسخة اليوم بصفته أحد أعمدة المسرح اللبناني المعاصر، أستاذاً ومخرجاً وكاتباً. إنّه المتمرد الفطري، والمسرحي القلق... صورة حقيقية نراها عبر إنتاجه الفني الذي سيظلّ في إرث لبنان المسرحي، الواجب الاحتفاء به، وإعادة طرحه ومساءلة مدى راهنيته.

* «بيك ـــــ نيك ع خطوط التماس» ( 10 إلى 17 آذار)، «زرادشت صار كلباً» ( 20 إلى 27 آذار)
«قندلفت يصعد إلى السماء» (30 آذار إلى 7 نيسان)، ــ الساعة الثامنة والنصف مساءً ــ «مسرح مونو» (الأشرفية ــ بيروت). للاستعلام: 70/626200