بينما تشخص عيناك على لاعبي كرة القدم الذين يهرولون على المستطيل الأخضر، تنشغل أذناك بالإطناب الذي يقدم عليه المعلّق الرياضي واصفاً لك ما تشاهده! ربما يعود سبب ذلك إلى التقاذف السريع للكرة في وسط الملعب، ما يولّد التباساً في تحديد وجوه اللاعبين وأسمائهم، فيتكفّل المعلّق، صاحب الحنجرة الجهورية والذي يجلس قبالة الملعب أمام بضع شاشات وخريطة لمناطق تمركز اللاعبين بتوضيح هذا الأمر، ناهيك عن الملاحظات والمعلومات الذي يعطيها عن كل لاعب على حدة، مثل عدد الأهداف الذي سجلها، ومجموع الكؤوس التي رفعها، وأحياناً يمرّ على علاقة بيكيه بشاكيرا، وكريستيانو بجورجينا. الدور الآخر للمعلّق هو تحليله السريع لمجريات المباريات، بحيث يفنّد نقاط الضعف، والقوة، وخطورة الهجمات، وهزالة الدفاع، وصاروخية الركلات.


التعليق الجندري
إذا ما استعنّا بتوصيفٍ قد يبدو للوهلة الأولى مفرطاً بجندريّته، نقول عن المعلّق الرياضيّ بأنه: ذلك الرجل الذي لا يطبق فمه حتى سماع الصفارة الأخيرة، أي بعد 90 دقيقة، هذا إن كنا محظوظين ولم يُضاف إلى التسعين دقيقةٍ دقائق أخرى أي ما يعرف بالوقت الضائع.. نقول الرجل، لأننا لم نسمع عن امرأة تلعب دور المعلّقة على مباريات كرة القدم، أقلّه في العالم العربي. لم تحضر تلك السيّدة التي تخترق ذلك الاحتكار الذكوري، لمهنة لا تحتاج بيولوجياً لأكثر من عضلة واحدة، هي عضلة اللسان. منذ زمن بعيد دخلت المرأة عالم كرة القدم كلاعبة، ثم حقّقَت نقلة في هذا الصدد وباتت تدير المباراة، أي إنها أصبحت حكماً، وها نحن بانتظارها معلّقة على اللعبة.

ميكروفون في ملعب شعبيّ
في طفولتنا حيث كنّا نمضي أغلب أوقاتنا كمتفرّجين على البطولات المحلّيّة في ملعب النصر، كانت تلك اللعبة الشعبية ترتقي إلى أعلى درجات الاحتراف. ما إن يتم تركيب ميكروفون كبير فوق سطح أحد المحلات، حتى يسود صمتنا ونغرق في الإنصات إلى المعلّق الذي يجلس في ذلك المكان المرتفع، يخبرنا عن المجريات التي نعاينها ونحن بصدد مشاهدة اللعبة. لذاك المعلّق أسلوبه الخاص في الوصف بحيث كان يأخذ المباراة نحو منحى كوميدي، مستعملاً استعاراتٍ خاصّة، ونعوت يصف بها اللاعبين، وقد يمرّر إعلاناً، على الأرجح مدفوع، عن افتتاح محل ألبسة جديد في المنطقة. الأغرب هو اللكنة المصرية التي كان ينطق بها بين الجملة والثانية، لنفهم جذور الأمر فيما بعد، حين عرفنا بأن أحد أهم المعلّقين الرياضيين، في تلفزيون لبنان، كان مصرياً، له بصمته وتأثيره، وكان من حيث لا يدري، مرجعاً يحتذى به.
قيل فيما بعد بأن إدارة التلفزيون الوطني قد استغنت عنه كونه يتعارض مع التوجه «اللبناني» الذي تسعى المحطة إلى تكريسه، وترسيخه، وهو لم يكن الإجراء الأول من نوعه، حيث كانت هناك سابقة مع المذيعة المصرية ليلى رستم، التي حاورت أهم الشخصيات عبر الشاشة اللبنانية. لذلك الهاجس «المصري» منطلقات عدّة، أبرزها سطوة الغناء باللهجة المصريّة على معظم المطربين اللبنانيين والمطربات، فكانت لبننة الغناء قراراً سياسياً، تمظهر في تعزيز الروح اللبنانية، مع الرحابنة، وزكي ناصيف، وغيرهم من صناع هذا الفن.

مساحة التعبير الحرّ
لم يكن «كابتن ماجد» مجرد مسلسل كارتون يُعرَض لتسلية الأطفال في اليابان أو في العالم العربي بعد أن تمّت دبلجته، ومن ثم عرضه على شاشات عربية كثيرة. لقد تعزّزت رياضة كرة القدم عند الأطفال، مع ذلك الفتى الساعي نحو تحقيق البطولة، ولم يكن الأمر لينجح لولا هؤلاء المعلّقين على المباريات، الذين يحتدّون أثناء تعليقهم، فتراهم يصرخون، يهلعون، ويترقبون. وكأن المنافسة، واللعب الجميل، لا يكفيان لاكتمال الحدث. على المعلّق أن يصف ما نراه بكلمات، ترفع من قيمة اللحظة في مجاز خارق، بتعابير تقارب الأسطرة، لتعطي تلك الأجسام النحيلة أبعاداً لا تكتنزها بالضرورة.

الكلام المكسّر
في التعليق الرياضي، شيء من التمثيل، وكأن المعلّق مدبلِج، يتلاعب بصوته حسب ما يطلبه المشهد، فيتباطأ في إيقاع الصوت حين تكون المباريات رتيبة، ثم نراه ينتفض، صارخاً، مستعجلاً في صفّ الكلمات، ومراكمتها، وصولاً إلى درجة تذويب الحروف على بعضها، فلا نعد نلتقط منه شيئاً، ولا نستخلص منه معنى، مثلنا حين نقع في مواقف مشابهة، تحتاج شرحاً سريعاً لإيصال الكثير مما يختلجنا، فتخرج كلماتنا مكسرة، مبعثرة، خاطفة. في تلك المواقف، النبرة تكفي، والاستنتاج لا يخيب، إذ هناك إيقاعات صوتية معروفة للفرح، أو الغضب، أو الحب. اللحن يفي بالغرض.

موت المؤلِّف
ثمة تشابه كبير بين عالم الرواية، والتعليق الرياضي بواسطة الراديو. كلاهما يسمح لمخيلة المتابع بإطلاق العنان للتصورات الخاصة بكل متلقّي، فالمعلّق يطلق الكلام عبر المذياع، بينما يقوم المستمع بإعادة خلق المشهد، راسماً في ذهنه شكل الملعب، ودرجة الإضاءة، وحركة الإعلانات على جوانب المستطيل، لكن الأصعب هو بناء مشهدية متحركة للاعبين، مع الكرة التي يتقاذفونها. في هذه حالة، قد يكون المعلّق أسرع من اللاعب، وأكثر كفاءة منه، وخاصة أن الكلمات بطبيعتها، لا تترجم الأحداث والأحاسيس بدقّة بل تترك فراغات وثغرات من الصعب توصيفها. هنا يموت المؤلِّف على حسب توصيف السيميائي الفرنسي رولان بارت، بمعنى أن اللاعب أصبح مجرد نموذج من بين آلاف وملايين النماذج التي ستتوالد في خيال كل فرد من المستمعين الذين لا يعرفون شيئاً عن حركات اللاعبين إلّا بما جادت به كلمات ذلك المعلّق من وراء أثير الراديو.

تخدير الجماهير
أن يكون الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، معلقاً رياضياً في مرحلة من مراحل حياته، فهو حدث ليس بالعاديّ أو بالعابر. في التعليق الكثير من فن الخطاب، بالمقدرة على توظيف الصوت والتلاعب بأوتار الحنجرة، واختيار التوقيت المناسب لإطلاق الدعابة، أو استنفار التعابير الحادّة، المسنّنة، وبتكرار معيّن، وإطالة الجملة. هكذا يدرك المعلّق أهمّية وظيفته، ويتذوّق جمال تأثيره على مستمعيه، فيسحرهم تارة، ويخدّرهم تارة أخرى. لطالما كانت السياسة، فنّ اختيار الكلمات وتطويعها في قالب الخطابة. بعضهم كان خطيباً، ولا يحسن فعل أي شيء آخر. في أغلب الأحيان، يتحوّل المعلق إلى إله ميثولوجي، يطلّ من خلف الغيوم، زاعقاً، راعداً، واعداً متوعداً، تصاحبه رماح البرق المضيئة. وقد لا ينطبق هذا التوصيف على جميع المعلّقين، وخصوصاً أولئك الذين يتبنون المدرسة الإنكليزية، تلك المدرسة التي تتعامل مع التعليق الرياضي برزانة، وهدوء، وشيء من البرودة، والكثير من الإيجاز. هذا النموذج موجود، لكن جمهوره قليل، وبالطبع، لن يُكتب لهذا النوع من التعليق، بأن يكون سياسياً ذات يوم.