أحببنا مسلسل «غراندايزر» بأقانيمه الثلاثة: «دايسكي» الشاب العادي الذي يشبهنا، و«دوق فليد»، البطل القادم من كوكبه البعيد، والشخصية الرئيسية التي تحمل اسم المسلسل، «غراندايزر»، وهو نقطة التقاء الهويّات في تلك الآلة الضخمة التي قُدّر لها الدفاع عن الأرض من شرّ الغزاة الذين شرعوا باحتلال الكواكب وظنّوا أن كوكبنا الأزرق لقمة سائغة في فم القائد «فيغا الكبير». والأخير هو ذلك الضخم الذي لا يطلّ على ضبّاطه ومساعديه إلّا من خلال شاشة واسعة، مطلقاً أوامره وتوجيهاته لينفّذها «غاندال»، و«زوريل»، و«بلاكي»، القادة الذين يتمتّعون بسيكولوجيات مختلفة، وقد يتعارضون في ما بينهم لكسب ودّ «فيغا».

في المسلسل الياباني القديم «غراندايزر»، ثمّة سرديّات وتوصيفات لم نلتقطها سوى في زمن الإنترنت حيث الشروحات المفصّلة تطاول الرموز والدلالات، لنعرف مثلاً أن الدكتور «آمون» هو من عثر على «دون فليد»، وأطلق عليه اسم «دايسكي»، وأشرف على تحضيره لمواجهة الغزاة بحكمة وبدون انفعال. اليوم انتبهنا أن قصة غراندايزر تشبه البطل الأميركي سوبرمان الذي مات أهل كوكبه وجرى تهريبه بواسطة مركبة خاصة ليعيش على الأرض محارباً الشر مثل الوحوش الآتية من فضاءات شريرة ثانية. حتى بزّة «دوق فليد» تشبه لباس سوبرمان وباتمان؛ الحذاء العالي، وبروز السروال الداخلي فوق البنطال وليس تحته. عندما كانت أعمارنا صغيرة لم نكن لنتخيل البعد الفلسفي، والنفسي، والجندري لوجود «السيدة غاندال»، تلك المرأة الغاضبة داخل وجه «غاندال»! هكذا وبدون سابق إنذار، كان وجه الرجل ينفتح مثل نافذة لتطلّ تلك القائدة بشعرها البرتقالي حاملة في يدها رمحاً، وتصرخ عن كيفية التخلّص من غراندايزر.

بطولة الصوت
يتألف مسلسل غراندايزر من 74 حلقة، وهو من الخيال العلمي، تمتد كل حلقة إلى ما يعادل 21 دقيقة ونصف دقيقة، وقد كنّا في صغرنا في ثمانينيات القرن المنصرم، ننتظر عرضها، إذ كانت تُعرض حلقة واحدة في الأسبوع، وتشحننا بطاقة هائلة من الثقة، والخيال، واللغة. كان أداء الفنان جهاد الأطرش في دبلجة صوت غراندايزر يسحرنا، حتى إنه يمكن اعتبار أدائه لهذا العمل من أشهر ما قدَّمه في مسيرته الفنية على الرغم من مساهماته التمثيلية العديدة. أما صوت «كوجي» وهو البطل المساعد لـ«غراندايزر»، فقد دبلجه الممثل والشاعر الفلسطيني عبدالله حداد الذي عاش في عدة عواصم قبل أن يستقر في الدنمارك ويموت هناك عام 1994. المفارقة الكبرى في كون «كوجي» هو البطل المحبوب من قبل اليابانيين في مسلسل سبق غراندايزر لذلك لم يتقبّلوا دوره كبطل مساعد باعتباره شخصية ثانوية، لذلك فقد جاءت النقمة قوية وأضعفت وهج المسلسل في طوكيو، على عكس نجاحه الباهر في العالم العربي حيث استطاع مسلسل غراندايزر أن يشكّل ذاكرة جمعية متينة، تتمظهر بذلك الاحتفاء بسامي كلارك، الفنان اللبناني الذي غنّى شارة المسلسل (بإشراف زياد الرحباني، ولم يكن قد أتم الثالثة والعشرين من عمره). فقد حلّ كلارك ضيفاً على أهم البرامج التلفزيونية العربية، كما أطل في حفلات في أميركا وأوروبا، لينشد أغنيته الأيقونية التي كتبها الشاعر السوري موفق شيخ الأرض:
«علّي علّي بطل فليد هيا طر يا غراندايزر... بعزم علّي حمماً أرسل افتك بالأعداء
كافح شراً حطّم مكراً في حزم وإباء ... امنع طمعاً اردع جشعاً فالخطر كبير
هذي الأرض يا غراندايزر كوكب صغير... خيرها يزهو حبّها يسمو للعدل الفسيح».

الدعاية اليابانية
«من أجل السلام على هذا الكوكب الأخضر» هي الجملة الأكثر تكراراً في ذلك المسلسل على لسان الياباني الدكتور «آمون». ومن خلاله سوف نلاحظ أن اليابان، وعاصمتها طوكيو، جزء مركزي في بنية المسلسل الكرتوني. فالرموز الدالة متوائمة جميعها ومصبوبة في البعد الدعائي، والتعبوي لصالح ذلك البلد، إذ ليس من العاديّ أن تقع مركبة غراندايزر على أرض ذلك البلد الشرق آسيوي لتُستَحضَر أهم العناوين المتعلّقة بمصير الأرض. تبرز اليابان كنقطة مركزية للصراع، والتحدّي، والدفاع، وليس واشنطن، أو باريس، أو موسكو، أو لندن، ولا حتى بكين. الجدير ذكره أن بعض الحلقات تتضمن مشاركة للجيش الياباني، من خلال الآليات الثقيلة كالدبابات والمروحيات، فمثلاً في إحدى الحلقات، ساهمت تلك الطوافات بحمل وإبعاد القنبلة الضخمة التي رماها الغزاة لتفجير الأرض. والعارف بلحظة هيروشيما المشؤومة، سوف يلاحظ التشابه في المقاربة، إذ إن الطوافتين الأميركيتين قد حملتا القنبلة الذرية بواسطة جنزيرين كبيرين بهدف إلقائها على تلك المدينة المأهولة بالسكان بينما الطوافتان اليابانيتان نراهما تحملان القنبلة بهدف منع سقوطها وانفجارها.
في إحدى الحلقات يوصي الدكتور «آمون»، كلّاً من غراندايزر، و«كوجي»، و«ماريا»، و«هيكارو»، قائلاً: «حسناً، اذهبوا، أمامنا أربع دقائق فقط. خلال المهلة كرِّسوا كل جهدكم لإنقاذ طوكيو، والأرض برمّتها». وفي الحلقة ذاتها، يتحامل «دايسكي» على جراحه، فيغادر سريره باتجاه النافذة حيث الجبال التي تظهر خلفها «الشمس الحمراء» كقرص مشابه تماماً لتلك الدائرة الحمراء في العلَم الياباني. يسأله كوجي: «ماذا تريد أن ترى؟» فيجيبه دايسكي: «مدينة طوكيو»، ليردّ «كوجي»: «ذلك غير ممكن من هنا»، فيقول دايسكي: «بل ممكن. المدينة التي تضم أناساً طيبين، ولا تضم أشراراً»، فيوافقه «كوجي» الرأي، بعد أن التقط البعد المجازي في كلامه: «فهمت. إنّي أراها أيضاً يا دايسكي. أقدر أن أرى المدينة حيث يعيش الناس، والتي جازفتَ بحياتكَ لإنقاذها».
وقد صرّح جهاد الأطرش في مقابلة معه بأن المشرفين على الدوبلاج قد غيّروا عبارات كثيرة وردت في المسلسل، ليضعوا مكانها كلمات تناسب مجتمعاتنا العربية وقضايانا، وسيّما أجواء الحرب في لبنان، أي في الوقت الذي كان يُعرض فيه مسلسل «غراندايزر». طريقة كانت منتهَجة في تلفزيون لبنان، فقد كنا بحاجة إلى مخلّص، وبدا أن «غراندايزر» بما يمتلك من مقدرات، هو الحلّ الإعجازي لمعضلة الحرب التي كان قد مرّت على انطلاقتها خمس سنوات، دون أي أفق للحلّ. وهناك من رأى في قصة «دوق فليد»، المطرود من أرضه، نازحاً صوب كوكب الأرض، تمثيلاً لفلسطين وشعبها، فـ«غراندايزر» هو الفدائي الساعي للتحرير، بينما «فيغا»، و«زوريل»، و«بلاكي»، يجسّدون: بن غوريون، وبيغن، وشارون.

حب من طرف واحد
لم تغب العاطفة، وقصص الحب في ذلك العمل الذي كتبه جو ناغاي ورسمه شينغو أركي وأخرجه كاتسوميتا تماهرو وأكيمي مايازاكي. لقد كانت هناك عاطفة واضحة من قبل «هيكارو» باتجاه «دايسكي»، بينما الأخير لم يبد أي عاطفة نحوها، وربما هي إحالة تفضي إلى التزامه المخلص للقضيّة، فلا يشتّت انتماءه في مسائل عاطفية شخصية. غير أن «هيكارو» عادت وانتمت إلى المشروع المقاوم الكبير، فكانت لها مركبتها الحربيّة الخاصة، على غرار «كوجي»، و«ماريا»، شقيقة «دوق فليد». أما خاصيّة مركبة «هيكارو»، فهي المقدرة على القتال في الماء وذلك تلافياً لثغرة في تصميم «غراندايزر» الذي لا يقاتل في المياه بقوّة كاملة، فعالج الدكتور «آمون» الأمر بتصميمه لتلك المركبة التي تمتلك إمكانية الاتحاد بـ«غراندايزر».
في الأساس «هيكارو»، مجرّد فتاة ريفية رقيقة، تساعد والدها العم «دامبي» في مزرعته. إضافة إلى التواجد المحبّب لشقيقها الأصغر «غورو». تميّز «دامبي» الرجل القصير، بشاربين مرسومين كشاربي الهرّة. كان هذا الرجل الريفي، فاكهة المسلسل، أدّى الممثل مروان حداد (توفي في عام 2015) دوراً مدهشاً (دبلجة الصوت)، ليكون صوته مدعاة سرور وتحريض على الضحك. لم يفقد الرجل طرافته حتى وهو يحمل بندقية كلاشينكوف من على برج خشبي صغير، مطلقاً منه النار على الصحون الطائرة التي أرسلها «فيغا الكبير» وهو فعل بطولي خارق، خاصة في ظلّ التفاوت الكبير بين سلاحه وصواريخ تلك الصحون المتطورة تكنولوجياً.
الحب الصريح تمظهر في ذلك الغمز والتقارب بين كوجي وماريا، وهو حب لن يُكتَب له النجاح، حيث سافرت ماريا مع أخيها دوق فليد، إلى كوكبهما المحرَّر، في آخر حلقة من المسلسل.

التماهي مع صورة البطل
من الطبيعي أن يتماهى الطفل مع شخصيات المسلسلات الكرتونية التي يشاهدها وخاصة إذا راعى صنّاع العمل هذه الحساسية. هكذا يتعمّد صنّاع المسلسلات الكرتونية رسم الأبطال بوجوه حليقة، وملامح غير محدّدة لأعمار الشخصيات بحيث تمتزج الطفولة ببعض المراهقة وعمر الشباب، ما يسهل على الطفل إسقاط تخيلاته على الشخصية فيتقمّصها ويعيشها كأنها هو.
كانت ملامح الأشرار منفرة، ناضحة باللؤم، والقسوة، فنفر منها الصغار بطبيعة الحال، غير أننا اليوم، نتمعّن في خطوط تلك الرؤوس وأزيائها ونكتشف مدى براعة الفنانين في رسمها وإبداعهم في صياغتها: «بلاكي» الأخضر النحيل بالنقاط الثلاث على جبينه، والزخارف السوداء في وجه «فيغا»، بينما نلاحظ الشبه بين «غاندال» الأزرق ووجه الوحش فرنكشتاين، أما «زوريل» فله جناحان كجناحَي الوطواط يخرجان من خلفية جمجمته.

مِثال وتمثال
تم تنفيذ غراندايزر كعمل بتقنية رسم ثنائي الأبعاد (2D)، ولم نرَ غراندايزر بأبعاده الثلاثة (3D) سوى في بعض الأعمال الدعائية. وقد ظهرت مجسّمات كثيرة لذلك البطل الخارق كما ظهرت مجلات شرائط مصوّرة تحمل اسمه ودفاتر صغيرة لتلوين «غراندايزر»، وفي ما بعد ظهرت المجموعات المنحازة إلى ذلك المسلسل، كما صار «غراندايزر» مرسوماً على الثياب. ظهرت في لبنان فرقة فنية تحمل اسم «اشكمان»، تتمحور أعمالها الفنية على مزج «غراندايزر» بالحرف العربي مع الشدّة فوق عين ذلك الروبوت الضخم. وقد رسموه بتقنية الغرافيتي على جدران كثيرة في منطقة الحمرا وغيرها في بيروت. أما في الرياض، فيحتلّ مجسّم «غراندايزر» أهم مكان في منطقة بوليفارد وورلد بطول 33،7 متراً.
اليوم، لا يكاد شيء يجمع جيلنا سوى ذلك المنقذ الذي هزم «فيغا الكبير»، بأسلحته الكثيرة التي حفظها الجميع عن ظهر قلب: الرزّة المزدوجة، رعد الفضاء، اللولب الساحق، شعاع اليد...
هكذا لم يعد «غراندايزر» مجرد مسلسل كرتوني، بقدر ما هو حالة، أو ظاهرة، لها جمهورها الذي لم يتخلص من تعلقه بها ولو أنه في طريقه نحو الكهولة، ليكون العمل «شيفرا» يفهمها وتربط هؤلاء الذين عاشوا مراحل الانتقال من الأبيض والأسود إلى الملوّن، بقنوات رسمية، ثم فضائيات تتناسل في كل يوم.