محمد السيد حجر

«من ظلم الدهر نلوذ بالشعر
من الظلم العلنيّ نلوذ بالشعر»
عباس كيارستمي


كثيرة هي الليالي التي انتشلني فيها الشعر من السقوط في البئر. دائماً ما أخذت من القصيدة ملاذاً حصيناً أهرع إليه لأحتمي من وطأة الحياة اليومية. لم أعد أذكر عدد المرات التي رافقني فيها شطر شعريّ لساعات وربما لأيام، فللشعر قدرة على قول ما يستحال قوله. وللشعر أوجه عدة، ولمتذوّقيه مذاهب في ما يحبون، والشعر لمعتنقيه هوية في حدّ ذاتها، ولربما تفنى الأعمار حتى يصادفها الهائمون والسالكون لهذا الدرب. في حالتي الشخصية، لقد وقعت أسيراً لتجربة مصطفى إبراهيم الشعرية، ثم اخترت المذهب الذي سأفضله إلى مدة لا أعرف كم ستطول، ولكنني أعتقد أنها ستمتد طويلاً ما دام مصطفى إبراهيم يكتب شعراً.

(من حساب مصطفى إبراهيم الخاص على فايسبوك)

مصطفى إبراهيم (1986) هو شاعر مصري يكتب بالعامية. بدأ نجمه في البزوغ منذ أكثر من عقد ونصف. برز شعره بالتزامن مع اندلاع ثورة يناير، وراح الكثيرون يلقبونه بشاعر الثورة. بجعبة مصطفى إبراهيم ثلاثة دواوين: «ويسترن يونيون فرع الهرم»(2011)، و«المانيفستو» (2013)، و«الزمن» (2019). دلفت إلى دهاليز شعر العاميّ المصري من بوابة مصطفى إبراهيم ووقعت في غرام هذا الشعر. لشعر العامية عند المصريين مكانة خاصة. إلى جانب كونه نمطاً قائماً بذاته يجمع بين الوزن والقافية كما أنه مفعم بالصور والمجاز، فهو أيضاً يؤدي وظيفة اجتماعية. لكن رغم ذلك، دائماً ما كان الشعر العاميّ مسألة مثيرة للجدل بل محل اتّهام. فقد اعتُبر في كثير من الأحيان أنه مبتذل، ونُظر إليه في أحيان أخرى أنه خارج عن اللغة العربية وجوهرها أي الفصحى، بل وصل الحال إلى اتهامه بأنه ضد القومية العربية بسبب كتابة أصحابه باللهجات المحلية. لكن إذا كانت الدوافع الفكرية والسياسية الكامنة خلف بزوغ شعر العامية فى بداية ستينيات القرن الماضي تُختصر بالانحياز إلى الطبقات الشعبية، والترويج للمد القومي، ومحاكاة العامل والفلّاح، فلن تكون غاية هذا النوع الشعريّ إلا التورط في المسائل القومية. يقول عباس العقاد الذي أدرك هذا الأمر باكراً حين عقب على تجربة الشاعر محمد بيرم: «إن اللهجة العامية التي اتخذها محمد بيرم أداةً له فى الكتابة لا تتناقض أبداً مع العروبة والثقافة العربية، لأن بيرم لم يكن يكتب بالعامية ليعبّر عما هو إقليمي ومحدود بل ليعبر عن الروح العربية بلهجة شائعة من اللهجات التي يتكلمها العرب فى حياتهم اليومية». اختار مصطفى إبراهيم، الذي تعدّ تجربته الشعرية امتداداً لسلسة طويلة من الشعراء العاميين المصريين، الكتابة باللغة العاميّة مثلما اختار مواضيعه الشعرية المكتوبة من المكان ذاته الذي جاءت منه هذه اللغة: الشارع، الحياة اليومية، الناس وإلخ.

الأيديولوجيا في الشعر العامي
يرى رئيس قصور الهيئة الثقافية في مصر، أحمد مجاهد، أن شعر العاميّ في مصر لا يزال مهمشاً على المستويين النقدي والأكاديمي رغم إنجازه الإبداعي الذي يلامس في نماذجه العليا ضفاف الشعرية العالمية الحديثة. وربما كان أحد الأسباب في ذلك هو أن رواد الموجة الأولى والثانية من الشعراء العاميين ينتمون- جميعهم تقريباً - إلى اليسار السياسي، وقد تعرّضوا للاعتقال السياسي ولتجاربٍ مريرة، وكانت مؤسسات النشر الرسمية والمجلات الثقافية والمؤسسات الأكاديمية قد تضافرت مع موقف الدولة السياسي منهم ومن شعرهم. يتحدث مجاهد عن الأثر الأيديولوجي في التشكيل الجمالي للشعر العاميّ، ويبيّن كيف أن غالبية شعراء الشعر العامي كانوا منحازين أيديولوجياً بشكلٍ واضح، وأبرزهم أحمد فؤاد نجم. مصطفى إبراهيم خطَّ بداياته الشعرية من هذه النقطة تحديداً. فهو قبل أن يكون شاعر ثورة يناير كما يراه محبّوه، كان الرجل الذي تنبّأ بقيام هذه الثورة في ديوانه الأول «ويسترن يونيون فرع الهرم» الذي صدر قبيل اندلاع ثورة يناير بأيام. يكتب مصطفى إبراهيم في قصيدة «ندرت الندر»: «ندرت الندر يا طاهرة\ ما سيب وقفة ولا مظاهرة\ وفي الإضراب وفي العِصيان\ تلوش الشومة و العُصيان». حمل ديوان مصطفى الأول الكثير من التمرد على الأوضاع التي وصلت إليها مصر في عهد الرئيس السابق محمد حسني مبارك، إذ كانت تومئ بشرارة غضب ستندلع عما قريب. في ديوانه الأول نرى شخصية مصطفى إبراهيم الناشط السياسي، ويمكننا أيضاً اعتبار هذا الديوان بمنزلة تأريخ للمدة التي سبقت يناير 2011، وانعكاس لشكلها السياسي. في «ويسترن يونيون فرع الهرم» رصدٌ لحال الأحزاب السياسية والحركات المعارضة التي سادت آنذاك، وكشفٌ لتلك المساحة التي تركها النظام لصنّاع الفن والسينما والأدب من باب الترويح عن أنفسهم كاستثمار في تأخير لحظة الانفجار.
يتحدث مصطفى إبراهيم عن لسان جيله الذي عرف المرارة وطعمها ولكنه رغم هذا بقي متمسكاً بحبه للوطن. كان التعبير عن هذا الحب بمنزلة إفصاح شخصي حميم في «قصيدة الكوتشي اللي باش» حيث يعترف بحبه لكل ذرة تراب من أرض وطنه، لدرجة أنه اعتكف الذهاب إلى أي بلدٍ آخر: «الكوتشي اللي باش\ مَ اللف في شوارعك\ يحرم عليه يبوس أرض غيرك\ والقلب القماش\ المكوي بعمايلك\ لسا معبق\ بريحة عبيرك». لكنه في الآن عينه، إفصاح جماعيّ، إذ إنه يعبّر عن جيل يرفض التغرّب خصوصاً أنه يعلم ما كابده الجيل الذي سبقه إزاء الاغتراب؛ نتحدث عن الهجرة الجماعية إلى الخليج التي حدثت في أواخر السبعينيات بعد سياسة الانفتاح التي طبّقها الرئيس الراحل محمد أنور السادات.

«مانيفستو»: التحام الفرد بالمجموع
في ذكرى يناير من كل عام أعكف على قراءة ديوان «مانفيستو»، وهو الديوان الثاني لمصطفى إبراهيم، وقد صدر عقب الثورة مباشرة. أتسلل بين الكلمات، وما إن أبدأ القراءة حتى تعود الأحداث بكاملها إلى ذاكرتي. يبرع مصطفى في أن ينقل صورة الحدث إلى مخيلة قرّاءه حتى تشعر وكأنك تشاهد فيلماً وثائقياً.
يمكننا اعتبار ديوان «مانفستو» كوثائقي عن ثورة يناير وأحداثها. يقدم مصطفى دليلاً شاملاً، يصف تمرد المتظاهرين، وأحداث الكر والفر، والمطالب والشعارات التي حملها المتظاهرون في ذلك الوقت. لكن الأهم في «مانفستو» هو المساحة التي أفردها مصطفى إبراهيم لمن لا مكان لهم في الواقع. ينتصر الشاعر للهامشيين، في قصيدة من أفضل ما كُتب للأشخاص «العاديين» الذين خرجوا مطالبين بحياةٍ أفضل. «فلان اللي ضايع في وسط الآلاف\ فلان اللي غرقلي خل الكوفية\ وشالني ساعة لما جت طلقة فيا\ فلان اللي بات يومها تلزمله دية\ من ابن الفلان اللي كل لحمه حاف».
لا توجد رؤية حتمية لمصير الثورة في «مانفستو» ولكنه حمل أملاً في النصر وحذّر من المجهول القادم «يا مصر لسه الأنبياء كتيرة\جيل ابن نفسه فى زمن عيرة\ ريحة هدومهم خلّ وخميرة\ وبيكتبوا السيرة ...و ملهمش في الإملا». بالنسبة إلى مصطفى إبراهيم، فإن الثائر هو سليل الحسين، وإن ثورة يناير لها سيرتها الكربلائية الخاصة «إني رأيت اليوم\ الصورة من برة\ قلت الحسين لسه\ حيموت كمان مرة\ إني رأيت اليوم\ فيما يرى الثائر\ إن الحسين ملموم\ فوق جثته عساكر». لا ينتهي شعر مصطفى عند السياسة، وإنما يتورط في وصف الحياة ودروبها، لا بتفلسف وفذلكة إنما بلغة عامية ماتعة، تعبّر عن الحياة ودروبها بسلاسةٍ ودهشة.

رحلة البحث عن المعنى
يضاهي تفاعل القرّاء مع القصائد تفاعلهم مع الحياة وفهمهم واستمتاعهم لها. هذا هو المعيار الثاني لشكل القصيدة المكتوبة باللغة العامية. فالوعي بالحياة والسير في دروبها للوصول إلى عيش أفضل هو أيضاً هدف القصيدة، من دون الدخول في معترك التقييم الأخلاقي أو الخطابية، بل في التأثير الشفّاف كما يفعل الشعر في تأثيره في المتلقي. إنّ تجربة مصطفى إبراهيم الشعرية تخرج من هذا المنطلق القائم على الجدل مع الموروث لفهمه، ومحاولة سبر أغوار الحياة من منظور واعٍ ومفارق لمن سبقه بسبب اختلاف التجربة، واختلاف زمن كتابة النص، واختلاف المعطيات.
عند الحديث عن الحياة يتحوّل خطاب مصطفى الثوري شديد الانفعال إلى حديث يغلب عليه الحزن والتجهّم. يتجلى ذلك حتى في صوته وهو يلقي قصائده.
يتحدث مصطفى في قصائده عن الحياة وفي حديثه حكاية جيل كابد الظروف نفسها الذي كابدها، وغالباً ما وصل إلى النهايات نفسها. يحدّث نفسه في البداية محاولاً إيجاد إطار مناسب لحياة يمكن أن يحيا بها، فيقول: « الصورة قصادك ممدودة ومش محدودة\ بالطول و العرض\ والبرواز ضلعه الفوقاني في السما\ والتاني مساوي الأرض».
في الأسطورة الإغريقية، تعاقب الآلهة سيزيف بصخرة يجب عليه دفعها نحو قمة جبل. يعتبر ألبير كامو أن الحياة تشبه قصة سيزيف تلك، معاناة دائمة، وأن مساعينا قد تكون وراء السراب، وأننا لا ندرك ذلك سوى عند الاقتراب من قمة الصخرة، فقط عند لحظة الانهيار. يصل مصطفى إلى فرضية كامو تلك لكن عبر مغامرة البحث عن معنى الحياة؛ يسبر أغوار نفسه في رحلته، يتعرف إليها، ويكتب لنا خلاصة التجربة. يعرّج أولاً على ظروف الحياة القاسية، وما كابده شباب هذا الجيل من بطالة وفقر وظروف قاسية، فيقرر أن يكتب عن الأمنية التي تراودنا جميعاً وهي العيش داخل عالم الأحلام «وما الزمن تعبه\ قَصْقَص شريط الفيلم\ خَد كادر كان عاجبه\ وقرَّر يعيش في الحلم». وأحلام اليقظة هي حالة نلجأ إليها حين نريد الانسحاب من الواقع ولو لبرهةٍ، وما أصعب الواقع في بلادنا. تخبرنا الدراسات أننا في أحلام اليقظة نصنع نموذجاً مثالياً عن أنفسنا، وهي حالة يحاول صنّاع الفن بمختلف أشكاله خلقها خاصة إذا كان موضوعهم المهمّشين، فمن منا لا يتذكر رائعة الكاتب وحيد حامد «المنسي» حين قرر البطل أن يهرب من ضيق الحال ومن الفقر المدقع بالحلم والهذيان. لكن بعد التورط في عالم الأحلام، أي حين نعود إلى الواقع، فسيكون قراراً عقلانياً أن نختار الجهل بإرادتنا، خشية أن نتعرض لما لا نريد أن نراه وما لا نقوى عليه، وهو ما يصفه العلماء بالتعامي. يصل مصطفى إبراهيم إلى هذا القرار، ويختار طواعيةً الجهل، بل يصفه بجمال فنّي عالٍ «و بما إنك حيلتك بس عينين\ في قصادك حل من الإتنين\ يا تقرّب جامد من الصورة\ وتاخدلك كادر تركز فيه\ وتعيش حكاويه\ وساعتها مفيش\ ولا كادر يعيش\ ويكونله لزوم\ غير كادر الزووم\ أصغر تفصيل في الصورة يبان». وهنا يدرك مصطفى أن محاولات تأطير الحياة أو وضعها داخل إطار هي محاولات متكررة، وهمٌّ عابرٌ للعصور.
غاب مصطفى إبراهيم عن الوسط الشعري منذ ديوانه الثاني. غاب لأكثر من ثماني سنوات ثم عاد يروي لنا ما يفعله الزمن وما كان تأثير الزمن عليه. عاد ليخبرنا أن الزمن كفيل لكي يضع لحياتك إطاراً، وأن يقلّل توقعاتك من الحياة وينقحها، وينقلها من شاعرية الثورة إلى ملل سنوات البناء «أنا مش هبيع الأمل للناس\ ولا هقدر أبيع اليأس\ ولا هقدر أبيع فكرة\ ممكن تتقلب بكره و تبقى العكس\ ولا هقدر أسكّت صوتي في دماغي و أقول له خلاص\ ما عادتش مستاهلة\ الدنيا صعبة... العب السهلة\ انت اللي بس مكبر الموضوع\ بلاش تكرر خيبتي و غبائي\ بطّل تصدّق و انت هتلاقي\ عينيك الغرقانين من بكره قاطعين الدموع\ بطّل كتابة\ وبطّل كآبة\ وبطّل تقول عالعبط إخلاص\ مش كل صاحب حلم يبقى صاحب حق».

مصطفى إبراهيم: الدنيا صعبة... العب السهلة
في المدرسة تعرّفنا إلى الإلقاء الشعري بأنه يمتاز بصوت رخيم ورنان، ولكنني حين سمعت مصطفى إبراهيم علمت أن الحقيقة لا تشبه ذلك الصوت، وأنها في الغالب ليست كذلك. مصطفى إبراهيم يعبّر عني بصوته الهادئ ذو الوتيرة الواحدة، يعبّر عن ضجري من الأشياء، وعن هواجسي من الحياة، وعن أملي المصحوب بحزن لا أستطيع التعبير عنه إلا عبر دواوينه التي تصف ما أعجز عن وصفه. وجدته يفعل ذلك كله بجمالية فنية وبلغة أعرفها. أستطيع بكل ثقة أن أقول إني أدين لمصطفى بتلك الليالي التي انتشلني فيها من السقوط في البئر، وإلى تلك الأفكار التي لم أعِها إلا عبر كلماته، فأنا من هؤلاء الذين شكل مصطفى إبراهيم جزءاً كبيراً من وعيهم.