تشملُ كلمة «قاعة» أكثر من معنى؛ أحدها الأرض المُستوية، المُطمئنة عمّا يُحيط بها من الجبال والتلال الصغيرة، تنصبُ إليها مياه الأمطار، فتنبتُ العشب. يشتبكُ هذا المعنى اللغوي مع تعريف جاك لاكان لقاعة السينما، بأنها تمثّل «رحم الأم» إذ يجلس كل مُشاهد بجوار الآخر في القاعة، وكل منهم يحتمي بتكوّن كتلة جماعية، تستدعي صورة الوجود الأولى، وما تمثّله من اطمئنان وهدوء. يتجلّى تعبير لاكان في حيّز واسع من المدلولات، فإن كان رحم الأم علامة اطمئنان كونية مشتركة بين الجميع، باعتباره بكارة الوجود البشري، فمن أي شيء نحتمي؟ ولأجل ماذا تكون مُشاهدة الفيلم في قاعة السينما فارقة عن المُشاهدة في المنزل؟
رينيه ماغريت، «سينما زرقاء»

منذ أيام قليلة، حضرتُ الفيلم المصري المعروض حديثاً في السينما «فوي فوي فوي» من بطولة محمد فراج وإخراج عمر هلال. بحثتُ أولاً عن المواعيد المُتوفرة في أقرب سينما من البيت. ظهر أمامي مقاعد مُتاحة في حفلة السابعة مساءً، وهو ميعاد مثالي للنجاة شمس القاهرة التي تُلاحق حرارة الجحيم كل موسم صيف. أمام السينما، طلب منّي عسكري الأمن المسؤول عن تنظيم الشارع ومنع الاكتظاظ به أن أنتظر داخل السينما. أخبرته أنني أُريد تدخين سيجارة قبل الفيلم لكنه طلب مني الدخول بحجّة أن الشارع لا يُحتمل، بينما داخل السينما مُكيّف.
يتناقض كل ما هو داخل السينما عن خارجها. ففي الداخل يستعدُ الواحد لحكاية مُتخيّلة، إذ مهما كان مرجعها الواقعي تظلُ متخيّلة، بينما الخارج يُنتج الواقع دائماً عبر فضاء مُمتد، في اتجاه عكسي لانغلاق المجاز السينمائي داخل القاعة. ثمّة تعريف للهروب يبرزُ في هذا السياق. في مارس عام 2015، هرب لاعبو مُنتخب مصر للمكفوفين من فُندق الإقامة بعد أن تبيّن أن أعضاء الفريق مُبصرون، وأن كل واحد منهم دفع خمسين ألف جُنيه للحصول على تأشيرة السفر إلى بولندا، لتكون هذه الرحلة حجة للسفر غير الشرعي إلى أوروبا. التقط المُخرج عُمر هلال هذا الخبر، وقدّم فيلماً يُنمذج الطموح الشبابي في مصر للسفر إلى الخارج باعتباره الخلاص، مع انتقاء مُميّز للزمن الفيلمي، حيث تجري أحداث الفيلم عقب ثورة يناير.
في مُفتتح الفيلم، يجلسُ «حسن» (محمد فرّاج) جوار صديقه أمام أحد وسطاء الهجرة غير الشرعية. يسردُ لهم الخطوات التقليدية المُعتادة. من أمان اليابسة إلى خطر الماء، يظل كُل شيء مُعتاداً ومُطابقاً لنفس السردية المُتناولة في أفلام أخرى عن الهجرة غير الشرعية أو في الفيديوهات المُتداولة صحفياً إلا من ملمح استثنائي ولذيذ إذ حفلت قاعة السينما بتفاعل كبير وضحك عالٍ أمام المزاج الساخر الذي قُدّم به هذا المشهد. عقد الفيلم، مُنذ الافتتاحية، اتفاقاً آمناً مع المُشاهدين، فلا حاجة لأن نُعيد إنتاج الأمور بنفس الجديّة المُعتادة، وبنفس الدرجة فلا مانع من أن نتناول مسألة جادة، بها هُموم واشتباك مع الواقع، ونحن نضحك على جمل وانفعالات حيوية وتلقائية ومكتوبة بحسٍ يجيد أن يخلق سخرية من العادي، ما نضحك عليه في المقهى بدون حذرٍ من الفخاخ الأخلاقية تجاه الألفاظ النابية.
أثناء مُشاهدة الفيلم، ومع التواطؤ أكثر في رحلة «حسن» الذي يذهبُ إلى أحد نوادي المكفوفين للانضمام إليهم مدّعياً أنه كفيف، فكّرت أن هذا الفيلم صيفيٌّ بامتياز، فالصيف منبتُ البحث عن أي شيء مرح، وخاصة حينما يلطش المناخ على وجهه بطيف هوائي بارد، أي شيء وقتها أكثر أهميّة من التفاعل وقُبول السخرية وارتفاع صوت الضحك؟ لم يحتاج الفيلم كثيراً من زمنه السينمائي حتى يسحب المُشاهدين من الخارج إلى الداخل. ثمّة قُبول –وبحث أيضاً، وإن كان بشكل لاوعي- تجاه هذه النقلة، وهنا ينزوي في الزمن الحرفي، أمام مُحاولة تطويعه بآليات دلالية ومادية، تبدأ من مزاج «الداخل» الذي يُمثّل أماناً من شيء ما في الخارج، مرورًا بشاشة السينما التي تشغلُ مساحة كافية حتى ننتبه، طوال فترة عرضها، وانتهاء بإقحام المُشاهد كفاعل في هذه العملية، إذ لا يُمكن لكُل هذه العملية أن تكتمل إلا بالمشاهدة الفاعلة. المشهد لا يكون كوميدياً إلا بضحك المُشاهد.
بالنسبة إلى الفيلم، كانت السُخرية هي فكرته المركزية لكي يبقى بإيقاع ملفت. ويُحسب لصنّاع العمل أنهم حافظوا على إضحاك المُشاهد، حتى خلال المواقف الجادة. ثمّة هامش للضحك طوال الزمن الفيلمي من دون تكلّف أو تحذلق مُفتعل يُصيب أفلام الكوميديا في السينما المصرية مُنذ سنوات. نفس الفكرة (السُخرية) هي التي جعلت الفيلم ملاذاً آمناً من الخارج، رُبما تكون أحد أشكال الطُمأنينة الأولى هي الجلوس في جوّ أفضل، أمام حكاية أخف وطأة من الخارج، وجوار أشخاص يُشاركوننا نفس الرغبة. بدا فعل الرغبة في الفيلم بالنسبة إليّ، مُشتركاً مع الآخرين، حينما لاحظتُ التفات أكثر من مُتفرج، ليتأكد هل أن الفيلم يُضحكُ الجميع، هل يُشاركه الجميع مزاجاً مُقارباً؟ وهل يتحقق فعلُ الهروب إلى المجاز، مؤقتاً، قبل أن ننفرد بهموم خارجية في الشارع؟ عند هذه اللحظة، التي تُمثّل التفاتة إلى المُحيط لضمان مُراوغة التوهّم أننا أمام فيلم سينتهي قريباً، أصبح الزمن الحرفي والمجازي كُتلة واحدة. «حسن» بطل الفيلم يعمل بنفس الآلية التي يعملُ بها المُشاهدون، جميعنا نتشارك نفس حالة الهروب من حيّز إلى آخر.
تظلُ مركزية السخرية وقراءة الفيلم من خلالها، لا يمنع أن الفيلم، بشكل مُجمل، بدت بنيته الحكائيّة تقليدية. فهناك حبيبة، وموانع، وتمثيل لصراعات مُنضبطة درامياً على نحو كلاسيكي. حتى حضور آليات التقديم الفيلمي من توظيف للمكان لعكس حالة الشخصيات ظهرت بشكل مينمالي يكتفي بالإشارة. تكمن ميزة الحضور التقليدي للفيلم من خلال تقديم فعل السُخرية بدلاً من تأخيره، كغرض يتجاوز فعل التفاعل من قِبل المُشاهد، يتصاعد إلى مادة مُستقلة لها القدرة على العبور بالفيلم من فخاخ الوصاية، أو الانبطاح للسردية الوطنية حول خطورة الهجرة غير الشرعية، فالأسبقية هنا لـ«حسن» كإنسان لديه هموم ندركها عبر حضوره الخفيف هو وأصدقاؤه، حيثُ الضحك يدفعنا بعيداً من البكائيات، ويضعنا أمام تفاعل لا يلزمه موقف نهائي.
عندما انتهيت من مشاهدتي الفيلم، وخرج جميع المُتفرجين من قاعة السينما إلى فضاء الخارج، انتظرتُ قليلاً في مقاعد الانتظار في مدخل السينما، يفصلني عن عسكري الأمن الذي التقيته قبل الفيلم أنني بالداخل، ما زلتُ هناك، في الحيّز الذي ينتمي إلى الفيلم، بينما هو واقف على نقطة فاصلة بين عالمين، الأول معنيّ بالتزامه العملي، والآخر معنيّ بتطلّعه. بشيء من الاعتذار، مررتُ على عسكري الأمن بالخارج وأعطيته سيجارة. أخذها بخجل. استقبلتُ ناصية الشارع الطويلة، استعدتُ فضاء القاهرة المحموم بالزحام والجوّ الكتيم في الصيف سواء في النهار أو في الليل. تذكرتُ الضحك الكثير الذي ضحكته أمام الشاشة، وما كان يحيطني من وجوه مُفعمة بالمرح، وشغلني سؤال أخير، أدركتُ من خلاله أنني عُدت، مُنفرداً، إلى ضرورة الواقع. هل يقفُ جُندي الأمن كُل يوم هكذا؟ يودّع أشخاصاً بصدد الدُخول إلى السينما، يستقبل آخرين عائدين إلى الواقع، ويقف هو، قدم هنا وقدم هناك، يعيش الصيف بكامل مفرداته المطلقة في شارع المدينة، من دون أي استثناءات، من دون أي هروب مشروع إلى فضاء سينمائي مُنغلق ومنعِش؟