دايفيد جاكسون، «كرسيّ تجريدية».
على أي حال إن ما يهمّ الآن، هو أنني عندما أحمل قلماً وأجلس قبالة منضدة تتوسّطها ورقة بيضاء، أشعر بالعالم يتغيّر من حولي. يخفت الضوء في جميع زوايا الغرفة فيما يتجمّع عمودي فوق كومة الأوراق أمامي. وهذا شعور لا أختبره إلا عند التهيُّؤ للكتابة لأنّ الشّروع بهذه المهمة يختلف عن أي فعلٍ آخر اختلافاً لا مشاحة فيه حتّى عن أقرب مناوئيه أي الكلام. فالشروع بالكلام يختلف عن الشروع بالكتابة، من جهة أن اللغة في الحالة الأولى، تتدفّق دفعة واحدة من رأسك إلى فمك إلى آذان من يصغي إليك مثل فيضان. فلا أنت تعرف أيّة دوالٍ تسرّبت في الأصوات التي زفرتها على هيئة كلمات، ولا مخاطبك يعرف ما الذي أردتَ قوله بالضّبط من مجمل ما مثَل في رأسه من تاريخ كلماتك. بينما تحضر اللّغة عند لحظة الاستعداد للكتابة بكليّتها راكدة أمامك من دون حراك، صفح أديم يتجمّع بين يديك لحظات قبل البدء بالتدوين. وهذا تماماً ما يجعل من القلم آلة ممتازة لتسجيل الخطايا، لأنّني عندما أكتب، فأنا لا أكتب فقط، ولا ألطخ العالم بأول ما يتداعى إلى ذهني كما أفعل في الكلام بل أتحسّس الكلمات، وأقلّبها في يديّ حتّى إذا شعرت أن قصّتي فيها، دوّنتها. فأتمرّد بذلك على ميتافيزيقا الجوهر، لأنّني أختار الكلمات كقوالب معدّة سلفاً، لتأطير انفعالاتي. فلا تكون الكتابة فعل إقرار بالجريمة، بل اختيار للجريمة التي أود أن أدان بها من مجمل ما تقترحه عليّ اللّغة، فتسيطر بذلك علاقة «الكلمات مع العالم» على الموقف برمّته. فأنت عندما تعدّ لائحة تشتمل على ما تريد شراءه من أجل حفل مجون، فأنت تخطّط للعالم أن يكون وفق ما تقوله اللائحة كما يقول أوستن، فأنت لم تحضر لائحة تشتمل على ما تمتلكه بالفعل، بل أنت تجعل العالم على هيئة كلماتك. على هذا الأساس، تكون الكتابة بالنّسبة إليّ، وعلى عكس ما تبادر لك، كرسيّ لاستنطاق اللغة، وليس لاستنطاق نفسي. لأنّ الكتابة فعل استنطاق أو قل استنباط للغة كي تبوح بأحوالك، وهي بذلك فعل الاستفسار عن داخلك. وهذا هو الجانب المخفيّ للغة الذي يتكشّف عندما نراوغ ما يسمّيه جاك دريدا بمركزيّة الصّوت (فونو سنتريزم). فالكتابة هي فعل صوغ الحقيقة، أي إن ما هو حقيقيّ يتقرّر ويظهر بعد الكتابة عنه، بالتالي يصبح حقيقياً.
وهنا يعود الغموض، لكنّه لا يهمّ، ما دام في جميع الأحوال، لن يهاتفني أحد عندما يفرغ من قراءتي للاستفسار عما أردت قوله. وهذا لا يهمّ أيضاً، لأنك تعرف الآن أن ما أكتبه يتطابق مع العالم الذي عشته وأعيشه، أو أن العالم الّذي عشته وأعيشه يتطابق مع ما أكتبه. ولذلك يصعب على من مشى ويمشي طريقاً مختلفاً عني أن يعرف بالضّبط ما أعنيه، لأنّ الكلمة تأخذ معناها على مستوى «ظاهراتيّ»، أي عندما تحضر في الرّأس كمحتوى إدراكي حيث أنت وتجاربك واستخداماتك للكلمات. هناك حيث لا أحد يستطيع التلصّص. ولذلك جلّ ما يمكنني قوله، إن ما فهمته من النّص صحيح تماماً ما دامت محاولاتك للفهم جديّة ووجيهة (ما هو النّص غير المفهوم؟). لأنّ عمليّة التأويل هي عمليّة كتابيّة أيضاً، عمليّة تُعيد إنتاج النص الأصليّ. هي كتابة بمعانٍ جديدة تثري النّص وتغذّيه، ولو كانت عكس ذلك لوقعنا في شرك الـ«صفر معنى»، وهذا، على الأرجح، ما لن تجده في كلمات مكتوبة. فما فهمته من قراءتك هو ما أردتَ أن يكون عليه عالمك، ولذلك هو صحيح تماماً.
وهنا أعود لاستحضار الدّافع الثّاني للكتابة بوضوح الذي لم أذكره في البداية حرصاً على ألا أكون قد توسّلت شفقة القارئ. والدافع الثاني يعود إلى المثل الفرنسيّ الذي يتلوه صديقي على مسامعي دائماً: «اكتب كي تُقرأ». فإذا استحملت عناء أن تقرأ هذه الهلوسات، فهأنذا، أُقرأ. وإذا لم تفعل، فأعتذر من صديقي مجدّداً، لكنّ ما يسليني هو أن الفشل ينتمي إلى الشبكة اللغوية ذاتها التي ينتمي إليها النجاح، ويستلف منها معناه. فالنجاح هو النجاح لأنه غير الفشل. والقول المأثور القائل إن كل شيء هو هذا الشيء، لأنه ببساطة كذلك فلا يغريني. لأنّ كلّ شيء هو هذا الشّيء لأنّه ببساطة هو غير كل الأشياء الأخرى، فالاختلاف هو ما يعرّف الأشياء. فإذا لم أكن لأفشل في تقديم مادّة سلسة لك لتقرأها، كيف ستعرف ما الذي يعنيه أن يُقدّم شخص ما، في مكان ما، مادّة مقروءة؟