سؤال الهوية في الأدب!هذا السؤال الذي أرهقني منذ وعيت عليه... أخاف أن يكون أكبر مني ولا أعطيه حقه مهما كتبت... ولكن لي طلب أن يسمع الحاضرون وبالأخص أولئك الذين يرتدون معاطف الأقلام الحديثة ولو كلمة أو جملة ينتفعون بها داخل بحر الأمواج الأدبية العاتية. لا تخافوا أنا لستُ مثل أولئك الذين يحتكرون مايكروفوناً، ولا أحبذ أن أكون ضيفاً ثقيلاً أو أن أسرد البطولات الخارقة والحكايات الطويلة حدّ الملل، هكذا أنا وهذا شيء من هويتي المعلنة.
كحيوان الخُلد أو القنفذ لا أزال باحثاً عن هويتي: «من أنا» و«ماذا أريد من هذا العالم تحت التراب؟» أسير في اتجاهات عديدة أبحث عن شيءٍ لا أعرفه، و إذ بي أصطدم بصخرة جارحة. لا أعرف الشعور بالفرح أو الحزن، أهي حقاً صخرة الهوية التي تشدني إلى الأرض أم هي جبلٌ من الصخور؟ هكذا هي الهوية بالنسبة إلى هذا الوجود الذي يسكنني وهكذا ربما تغنّى درويش بالهوية حين كتب: «وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة»


على الضفة الأخرى يقول أمبرتو إيكو إن الكاتب عليه أن يعيش كحيوان الحرباء في وصفه لحالة الكِتابة وإذا كُنتُ كاتباً حقاً هل أنا شخصٌ يملك هويات عديدة؟ من هنا يأتي سؤال آخر، هل ولدنا بهويّة حرة أم أنّنا مكبلون بأغلالها؟ وهل نكتشف الحرية حين نسرد؟ هذا ما استخلصه الكاتب بلال فضل في رواية «أمي ميمي، ويا للعجب». لا أعرف حين أسمع اللغة، هذه اللغة التي ينطق بها لساني، هل أفرح حقاً لأمجادها القديمة وأنا أستذكر الحلاج والجاحظ والأخطل والفرزدق والبوطي ناهيك عن المعري الذي عرفه العرب من خلال الكوميديا الإلهية لدانتي والتي تتناص مع رسالة الغفران، أم أحزن لأفول هذه اللغة كما يحدث في هذه الأثناء، حيث جيل التيك توك وتلك النماذج البشرية يسببون بموت هذه اللغة يوماً بعد يوم. ولك من «طاكيشي» نموذجاً!
لهذا كان لا بد لي من الحديث عن الهوية. الهوية هي وجه أمي وظهر أبي وتراب الدّار، ووجهي الذي كبر فجأةً وأنا ألعب بسيوف من خشبٍ مع الخلان في عمري. وطبعاً هذا اللسان الذي يلقي شعراً بدل الأغاني وأنا أقطف الزيتون وأحدث صديقي حسام عنها. وحين كبرتُ فقد أصبحت كالقنفذ تحت التراب الذي يبحث عن هويته التي تجعله حياً، أو ربما إنني أجد نفسي مع الهويات القاتلة التي تحدث عنها أمين معلوف. إن الشبه الحقيقي بين الفيروس والهوية هو أنَّ كليهما يودي إلى الموت المعلن أو الحياة الجديدة التي لا نعرف كيف ستكون حقاً، حتى إننا مصابون بتبعات الكورونا الجديدة ولا نعرف أين ستمضي بنا الحياة.
ولعل ما شدني في «منازل الهوية» التي تحدث عنها إبراهيم الكوني، عن أولئك الذين يهربون من هويتهم المعلنة ويمارسون التلهيج الثقافيَ، يكتبون بلغة عربيّة ثم يظهرون في شاشات أخرى بلغة لا تشبه لغتنا، أنهم يقذفون الهوية في عرض النّهر. ولا يتوقف الأمر هنا، بل إن الهوية التي تعانق لساننا أصبحت وسيلةً لكي نتشاجر ونتقاذف هاربين من هذا الوطن الكسيح الذي تآمر عليه المستعمر طوال قرن وربع قرن وبعض السنوات الرقمية!
لا أعرف ماهو قادم، لكنني أخاف من عودة الغرباء. هم الذين يسكنون غرفةً مجهزة بقوالب وأقنعة جديدة. الغرباء الذين لا نعرف من أي حضارة هم قادمون، و بأي هوية سيأتون من أجل السيطرة على ما بعد سقوط الأنظمة... وها أنا ذا أنصحكم بقراءة رواية أمين معلوف «الأخيرة».
أمّا أنا فهويتي المعلنة هي أنني جزائريّ وإلى العروبة أنتسب، وإنني أبكي حرقةً لهذا النشيد، وإلى أغنية الطيارة الصفراء التي تكشف مرايا الهوية. أنا قاصّ يحاول أن يكتب عن الهوية في هذا الوطن الكسيح، ويؤمن أنَّ أبناء الهامش هم من ينقذون الوطن في كلَّ مرّة حين يُباع من طرف أبناء المركزية.
أنا قاصّ يحاول أن يكتب الهوية. أنا ابن الرصيف الذي يركض فيه المساكين حفاةً من أجل هذا الوطن الكسيح.
ما أدركه حقاً أنني لا أزال أبحث عن الهوية التي هربت يوماً بين تلك القوارب الورقيّة في النهر، هذا أنا، أما الهوية إذ هي كطائرة ورقيّة ضائعة وفي كل لحظةٍ تهرب مني، فالريّاح لم تعرف السّكون يوماً.