«الوقت ما عنده وقت ينطُر حدا»
طلال حيدر



محطةُ انتظار الباص، قاعة الانتظار في المطار، أماكن مليئة بالناس وأنا أجلس الآن يا عزيزي في إحداها. قاعةٌ كبيرة في بقعةٍ بعيدةٍ عن منزلي، يجلسُ بجانبي شابٌ لطيفُ المظهر، لكني لا أظن أنه باستطاعتي لفظ اسمه، غريب. أصبحَ المكان، فجأةً، بارداً، وفارغاً، وموحشاً.
يستهّلُ محمود درويش قصيدته بالقول: «في الانتظار، يُصيبُني هوس برصد الاحتمالات الكثيرة». أكثِرُ من اقتباسِ محمود درويش من دون علمه طبعاً، فهو رفيقي في لحظات الضعف. هو الشخص الوحيد الذي ألوذ إليه عند حاجتي إلى البكاء.
أجزمُ أنّ واقع الانتظار يتصلُ بالاحتمالات وبدورهِ يودي إلى الهوس. تساؤلاتي كثيرة لكن أمنيتي صغيرة وواحدة: كم كنت أتمنى لو أجد بداية صارخة وواضحة كاستهلال درويش لقصيدته. لكن إذا ما عمّقنا النظر في مفهوم الانتظار لوجدناه سريعاً وبطيئاً في آن. سريعٌ مثل قراءة سريعة لقصيدة «في الانتظار» عند تعداد الاحتمالات، وبطيئاً كيومٍ صيفيّ حار.

«نبتة مشتعلة» لآية أبو هوّاش (زيت ومواد مختلفة على كانفاس - 2022)

محطة انتظار، موسيقى حزينة، وأصوات السيدات التي تنادي أرقام الطائرات بعيد كل البعد عن اعتباره من الموسيقى إلا أنني سأعتبره هكذا بسبب ظروف هذا المكان الموحش. أشعر أنّي سيدة أعمال أو مديرةٌ تنفيذية في إحدى الشركات العالمية الكبرى. أكتب كلمات هذا المقال كأني إن لم أفعل دخلتُ في الفراغ المطلق. وكأن وجودي متصّلٌ به. أكتب. أمسح. وارتشف من فنجاني الحزين. أنا يا عزيزي، في تلك المنطقة البرزخية التي تفصل حدّين، في تلك المساحة الهلامية حيث الرؤية زائغة وضبابية، حيث لم يحن موعد الانطلاق ولم ينته موعد البقاء. أنا هنا في الوسط، وما يبقيني هو الانتظار. لكن الانتظار لغةُ الوحشة والخوف. انتظار الآتي، حتى لو أنك تعلم موعد وصوله، موعد انطلاق الباص أو القطار، موعد إقلاع طائرة أو وصولها، هو مخيف. هناك دائماً احتمال أن تسبقني طائرتي أو أتأخرّ بثوانٍ بسيطة عن موعد الباص.
«الخمس دقايق بصيروا ستة إذا في شي بالنسبة إلك راح، وهني ذاتهن بصيروا أربعة هني وعم بصيروا ستة إذا في شي بالنسبة إلك جاية». تترجم هذه الفقرة المأخوذة من «نص الألف خمسمية» حالتي بدقة. يفسرّها زياد الرحباني بلغته المحكية الخارقة. الانتظار هو انطباعك حيال الأحداث التي تجري حولك «هلأ انت تشوف الستة أربعة السبعة تلاتة هيدي انطباعات». وللتوضيح، ترجمة الانتظار في هاتين الجملتين لا يعني أنّني أجده سهلاً أو يسيراً. يصعب حصرُ موضوع تعريفه بطريقة واحدة. فلكلّ منا طريقته.
لا أحاول أن أجد في هذا النص طريقة المعالجة إنّما تبسيط حيث يغدو تعريفه واضحاً. أعلم أن أمامي طريقاً أعلم أنني في خضم الانتظار. أعلم أنني إن استعجلتُ لملاقاة الطريق فلن تصل إلّا في موعدها، وإن تركتها تمرّ قد لا أستطيع اللحاق بها. الطريق لا ينتظر مسافريه، لذلك ما الذي أنتظره فعلاً؟ إنني انتظرُ الطريق. لا أدري إن كنتُ انتظر وصولها أو أنتظر نفسي. هل أنتظر وصول أحد؟ أم أنتظر أن استجمعَ قوةً لأرى ما في نهاية الدرب؟
وها إني، أعيش ما قاله درويش، أكتب هذا النص، وأسرح بيقظتي لأكتشف ما تخبئه لي الاحتمالات. مثلاً: قد ينتظرني طقس ماطر، أو طقس حار منعش بينما أجلسُ في قاعةٍ لا أشعر فيها بالوقت.
ما زلتُ في القاعة. مرّ وقتٌ طويل. قد تسبقني الطائرة. هل تسبقني الطائرة؟