وصلت اندفاعة توجيه الضربة الأميركية إلى سوريا، إلى ما يشبه الحائط المسدود، على الأقل من ناحية حسابات المصالح الأميركية ومفاضلات الربح والخسارة. ولم يبقَ لها سوى حظ واحد، هو وقوع الرئيس باراك أوباما في «لحظة تهور»، وهو أمر بات مستبعداً.
وداخل كواليس «البنتاغون»، رُصد في الآونة الأخيرة بروز اتجاه ديريك شوليه مساعد وزير الدفاع والمقرب من أوباما، الذي قاد منطق براغماتي في محاكاة الأزمة الناشئة بشأن سوريا. ويستعيد هذا المنطق معاني المحادثة التي جرت بين الرئيس بوش الابن والثنائي بيكر _ هاملتون المشرفين آنذاك على «لجنة دراسة الوضع في العراق». لقد اقترحا عليه الانسحاب من بلاد الرافدين، وعندما استنكر الرئيس السابق جورج بوش ذلك قائلاً: «هل تقترحان عليّ خيار الهزيمة»، أجاباه: «بالنسبة إلى دولة عظمى كالولايات المتحدة، إنّ الهزيمة هي خيار لتحسين الأداء، وليس نهاية المطاف». وهذا المعنى نفسه، يريد تيار واسع في الجيش الأميركي إيصاله إلى أوباما بخصوص أنّ عليه التراجع عن نيته ضرب سوريا، فـ«الهزيمة هنا خيار متاح بالنسبة إليه».
وفي الأيام الأخيرة شُغلت وزارة الخارجية الأميركية بالبحث عن تظهير تسوية لأزمة أوباما في سوريا، تناسب تطبيقات مبدأ بيكر _ هاملتون التي كانت قد اقتُرحت على بوش الابن لإخراج أميركا من أزمتها العراقية. وتعبيراً عن ذلك، جاء اقتراح وزير الخارجية جون كيري باعتماد تسوية تتضمن نقل الترسانة الكيميائية من سوريا. واللافت في «مبادرته» أنّ المدة التي حدّدها لاستجابة النظام السوري لهذا الطلب، هي أسبوع، وليست ٢٤ ساعة أو ٤٨ ساعة على عادة ما تحمله الإنذارات الأميركية «للدول المارقة»، حسب تسميتها.
والواقع أنّ واشنطن بادرت إلى رصف طريق تراجعها عن ضرب سوريا، قبل اقتراح كيري، بحسب تقرير ديبلوماسي يروي وقائع هامة من هذا المسار، الذي بدأ في الكواليس بعد أيام قليلة من إعلان أوباما نيته ضرب سوريا.
داخل مفكرة كيري الخاصة بالأزمة السورية، توجد واقعة اتصال للخارجية الأميركية مع وسطاء لهم صلة بالنظام السوري تعود إلى ما قبل شهرين من الآن. حينها اقترحت واشنطن على دمشق صيغة حل تعجّل بعقد مؤتمر «جنيف ٢»، مفادها إقدام النظام على مبادرة تجاه المعارضة تتمثل بعرض حكومة وطنية تضم كل أطياف القوى السورية، بما فيها المعارضة الداخلية والخارجية. ردّ النظام بالموافقة من حيث المبدأ، ثم تقدم خطوة أخرى لإثبات حسن النية، فعرض تشكيل حكومة من ثلاث عشرات: عشرة وزراء للبعث وعشرة للمعارضة وعشرة لشخصيات محايدة. اشترطت واشنطن للقبول بصيغة الثلاث عشرات أن يوافق النظام على إسناد المقاعد الوزارية السيادية للمعارضة (كالدفاع والداخلية والمالية، إلخ...). لم يتأخر النظام في رفض هذا الاقتراح، معلناً تمسكه بهذه المواقع الوزارية، ثم انقطعت الصلة بين الطرفين. منذ أيام، وفي إطار البحث عن تسوية تنهي حرج أوباما العالق داخل سجن إعلانه أنه ذاهب لضرب سوريا، أيقظ كيري مشروع الثلاث عشرات، وقرر أن يقدّم تنازلاً من نوع أن المعارضة تقبل بأن تسند الحقائب السيادية إلى فريق الوزراء العشرة المحايدين الذين يُنتَقون وَفق معايير متوازنة. ولكن كيري ووجه مرة أخرى برفض النظام الذي أصرّ على أن تسند هذه الحقائب السيادية إلى الوزراء العشرة المحسوبين على فريقه.
إثر ذلك، وبالتزامن مع شدّ حقائب أوباما لقمة العشرين، قررت واشنطن إدارة أعتى مناورات حرب الأعصاب ضد الرئيس بشار الأسد، فسرّبت له عبر مصادر أوروبية على صلة بشخصيات وسيطة مقربة من النظام، أنّ هناك شرطاً واحداً يقنع واشنطن بالعدول عن ضرب سوريا، هو إعلان الرئيس الأسد أنه غير مرشح لولاية جديدة في عام ٢٠١٤. لكن بالتوازي مع سياسة رفع السقف، كانت الخارجية الأميركية تعبّد طريق خط الرجعة لمرحلة ما بعد رفض الأسد المتوقع لمطلب عدم ترشحه، وذلك من خلال فسح المجال في السر لوسطاء آخرين لتجريب حظهم في التوصل إلى تسوية ما تتضمن تنازلاً سورياً معيناً: «أي تنازل»، حسبما قال كيري لشخصية عربية كانت تزرع عواصم القرار جيئة وذهاباً لإنتاج حل «اللحظة الأخيرة».
في هذه المرحلة جاءت الوساطة من الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي حمل اقتراحاً من بنود عدة (بعض المعلومات حدّدتها بأنها أربعة)، أهمها تشكيل حكومة وحدة وطنية توافق واشنطن على إعطاء المقاعد السيادية فيها للمستقلين، لا للمعارضة. ويشتمل الاقتراح أيضاً على إنشاء لجنة تشرف على الانتخابات الرئاسية، وعلى إعداد دستور جديد.
وقصارى القول أنّ كواليس أزمة أميركا في سوريا، أُغرقت خلال الأيام الماضية باقتراحات التسوية، لدرجة أنّ الوسطاء باتوا كثراً، ما جعل طبخة التسوية غير قابلة للنضج.
ويصف التقرير اللحظة الراهنة من عمر أزمة تهديد أميركا بضرب سوريا، بأنها لحظة السباق بين التهور الأميركي وإيجاد مخرج لأوباما لكي يسير بتطبيقات المبدأ نفسه الذي عرضه بيكر _ هاملتون على بوش الابن عندما تيقنت واشنطن من أنّ استخدام القوة في العراق لم يعد يجدي. فهل يتبنى أوباما تجاه الأزمة السورية مبدأ «الهزيمة كخيار متاح أمام دولة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية»؟!
احتمالات أوباما الثلاثة
ويورد التقرير ثلاثة احتمالات مطروحة على طاولة أوباما لإنهاء أزمته في سوريا: الأول أن ينفذ ضربة محدودة ورمزية تنقذ ماء وجهه. لكن هذا الخيار يواجه بقرار إيراني رافض لمبدأ إنشاء فضّ اشتباك مسبق مع واشنطن بشأن ضربها لسوريا. وثمة في هذا المجال، معلومات نقلتها شخصية عراقية رفيعة المستوى عن القيادة الإيرانية تفيد بأنّ جيفري فيلتمان خلال زيارته الأخيرة لطهران عرض أن تتوافق القيادتان الإيرانية والأميركية على نوعية الضربة لسوريا، مقابل ضمانة إيران بأن لا يعقبها رد فعل. لكن طهران أعلنت أنه بالنسبة إليها، إن ضربة واحدة أو ضربات عدة ستستدرج نفس رد الفعل العسكري. وبحسب مصادر أخرى منسوبة إلى الاستخبارات الأميركية، إن الاستطلاعات التي قام بها الجيش الأميركي خلال الأيام الأخيرة أظهرت أن فوهات المواقع الصاروخية الكثيفة في سوريا ليست موجهة فقط إلى إسرائيل، بل أيضاً إلى القواعد الأميركية في دول الخليج. وخلص تقدير الموقف الأميركي إلى وجود امكانية لأن تنطلق الصواريخ فقط من سوريا لتغطي إسرائيل والخليج معاً. الخيار الثاني، هو إيجاد تسوية تنطوي على «تنازل ما من النظام»، والأكثر مواءمة للبيت الأبيض هو تفاهم روسي _ أميركي _ سوري على الاشراف بشكل من الأشكال على ترسانة سوريا الكيميائية مصحوبة إذا أمكن بتوافق على صيغة تشكيل حكومة وحدة وطنية تبكر موعد عقد «جنيف ٢».
وكانت روسيا في ربيع العام الجاري قد دعت بنحو غير رسمي سفراء فرنسا وبريطانيا في مجلس الأمن إلى عقد جلسة تشاور في موضوعين: إيجاد صيغة للإشراف على الأسلحة الكيميائية في سوريا لضمان عدم انتقالها للجهات الخطأ أو عدم استخدامها في الحرب الدائرة هناك، إضافة إلى عرض حل للأزمة السورية يكون جزءاً من سلة حلول في المنطقة. آنذاك أهملت واشنطن فكرة تطوير هذه المبادرة بحيث تشملها كطرف فيها. ومنذ تلك اللحظة تعاظم هاجس من موسكو من أن تكون واشنطن تخطط في لحظة معينة لضرب سوريا من خارج مجلس الأمن بحجة السلاح الكيميائي.
الخيار الثالث هو التهور الأميركي الذي يبقى له حساب في ذهن سوريا، وأيضاً روسيا وإيران، رغم أنه أصبح الآن خياراً موجوداً في غرفة الموت السريري.



الإبراهيمي لم يتحدث عن احتمالات الضربة

نفى المكتب الإعلامي للمبعوث العربي والأممي الأخضر الإبراهيمي، أن يكون قد تحدّث مع أيّ شخص في احتمالات الضربة الأميركية على سوريا. وقال المكتب إنّ ما نشرته «الأخبار» في عددها أمس، بتوقيع ناصر شرارة، لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة، وإنّ الإبراهيمي لم يتحدث مع إعلامي ولا مع سياسي ولا مع دبلوماسي في هذا الموضوع.