لم يكَد مجلس «جامعة الدول العربية» يُنهي اجتماعه الأخير في مدينة جدة في 19 أيّار الفائت، بحضور الرئيس السوري، بشار الأسد، حتى توجّهت الأنظار إلى المرحلة «العملية» التي ستلي. مرحلةٌ كان بدأ أول معالمها يتّضح في اجتماع عمّان في الأول من أيار، حيث أقرّ وزراء خارجية كلّ من السعودية والأردن والعراق ومصر، بحضور نظيرهم السوري، ببقاء النظام في دمشق، وحتمية التعامل معه والتوصّل إلى «تسوية» ترضيه والدول العربية والغربية. هكذا، ولد ما أُطلق عليه لاحقاً «المبادرة الأردنية»، ليضحي هو الإطار العام لعملية التقارب، وليشكّل محوراً رئيساً لكلّ اللقاءات الدبلوماسية اللاحقة بين المسؤولين العرب ونظرائهم السوريين. في ما يلي تفاصيل المبادرة الممتدّة على عشر صفحات، والتي اطّلعت «الأخبار» على مضمون النقاشات بشأنها منذ أيار الماضي حتى اليوم، حيث يستمر الشدّ والجذب حولها، منعكسيْن عقبات كأداء في طريق التقارب السوري - العربي‎
تنطلق المبادرة الأردنية من أنه بعد 12 عاماً من الحرب في سوريا، لا يبدو أن في الأفق حلاً، ولا استراتيجية واضحة للوصول إلى تسوية سياسية. ولذا، فهي تحدّد 5 مبادئ رئيسة تنطلق منها:
‎- لا حلّ عسكريّاً للأزمة. ‎
- تغيير النظام ليس هدفاً فعّالاً.
‎- القرار الدولي 2254 هو أفضل سبيل للحلّ. ‎
- الوضع الراهن يتسبّب بتفاقم معاناة السوريين، ويقوّي الخصوم (في إشارة إلى إيران). ‎
- عدم التدخّل أو تأخيره سيؤدي إلى نتائج قد يتعذّر تغييرها لاحقاً.
‎بعد ذلك، تنتقل المبادرة إلى تفنيد الهواجس العربية عموماً، والأردنية خصوصاً، وأبرزها: تهريب المخدّرات عبر الحدود الجنوبية، عودة التنظيمات الإرهابية، تزايد النفوذ الإيراني، عدم عودة اللاجئين إلى سوريا وتراجع الدعم الدولي للاجئين والدول المضيفة. ‎أما بالنسبة إلى آلية الحلّ المنشود، فتقترح خطوات عدّة أبرزها: دعم مبادرة «خطوة مقابل خطوة»، حشد الدعم لمبادرة جديدة عربية وإقليمية، انخراط الحكومة السورية في مفاوضات عروض وطلبات والسعي للحصول على موافقة روسيا على هذه المبادرة. ‎وبناءً على ما سبق، تتحدّد 3 مستويات للتسوية الشاملة للأزمة، وهي:
‎سياسياً: الوصول إلى حل سياسي يحفظ وحدة وسلامة وسيادة سوريا، وفق مقاربة تدريجية.
‎أمنياً وعسكرياً: وقف إطلاق نار شامل، معالجة مسألة المقاتلين الإرهابيين الأجانب ومعالجة المخاوف الأمنية للدول المجاورة في ما يتعلّق بأمن الحدود، بالإضافة إلى تفكيك شبكات تهريب المخدّرات. وكذلك معالجة الوجود الإيراني، عبر إخراج قادة «الحرس الثوري الإيراني» وقواته، وانسحاب جميع العناصر العسكريين والأمنيين غير السوريين من المناطق الحدودية مع الدول المجاورة، ومنع «الميليشيات» الموالية لإيران من استخدام سوريا مركزاً لإطلاق هجمات عبر طائرات من دون طيار (درونز) أو هجمات عابرة للحدود، وتخفيض العتاد العسكري الإيراني في سوريا من حيث المواقع الجغرافية ونوعية الأسلحة.
‎إنسانياً: إحداث تبدّل تدريجي في سلوك الحكومة مقابل حوافز تُحدّد بتأنٍّ لمصلحة الشعب السوري، وتمكين بيئة مناسبة لعودة اللاجئين، فيما تكون الأمم المتحدة هي المسؤولة عن إيصال كل الدعم الإنساني إلى كل المناطق. ‎ولتنفيذ هذه الخطة، تحدّد المبادرة 3 مديات زمنية، من دون تحديد تواريخ أو مهل، هي:
‎المدى القريب: خطوات لبناء الثقة بما يتوافق مع القرار 2254، ومعالجة الأمور الخاصة بالمستوى الإنساني بشكل خاص.
‎المدى المتوسّط: الشروع في البعدين الأمني والعسكري، من خلال تطبيق وقف إطلاق نار شامل، وتجميد التجنيد العسكري لمدة عام على الأقل، وتخفيض الحضور العسكري الإيراني، وزيادة مكافحة تهريب المخدّرات.
‎المدى البعيد: انسحاب جميع القوات الإيرانية و«الشيعية» من سوريا.
‎وفي المرحلة النهائية، وبعد تحقّق كل ما سبق، تعمل الدول العربية على إعادة إدماج سوريا سياسياً، في المنطقة والعالم. ‎وفي مقابل كل خطوة تقوم بها الحكومة السورية وفق البرنامج المذكور، تحصل على خطوة تحفيزية من مثل الاستثمار في مشاريع التعافي المبكر، وزيادة المساعدات الإنسانية لسوريا، واستحداث قناة آمنة تسمح للهيئات الإنسانية والمدنيين بتحويل الأموال إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية لتسهيل المساعدات الإنسانية ومعاملات التحويلات، وابتكار آلية إنسانية محددة تسمح بتصدير أشياء إلى سوريا للاستخدام المدني كأدوية معينة ومعدات للمستشفيات وإمدادات زراعية ولوازم صيدلانية (ممنوعة حالياً لأنها تُعتبر متعددة الاستخدام، بفعل قانونَي «قيصر» و«الكبتاغون»). كما يُفترض أن يقوم المانحون وهيئات الأمم المتحدة المعنية، بالتنسيق مع الحكومة السورية، بالاستثمار في المناطق التي يُتوقّع أن يعود إليها اللاجئون، وتصميم مشروع تجريبي لعودة اللاجئين والنازحين بدءاً من الجنوب السوري. ‎كذلك، تدعم الدول العربية الحكومة السورية في المحافظة على المرافق والخدمات العامة، وتقترح آليات لصيانة هذه المرافق، وعلى رأسها محطات الكهرباء والسدود التي تقع راهناً تحت العقوبات الغربية. كما تتعهّد بدعوة جميع الأطراف السورية، بمن فيها تلك المسيطرة على الشمال الشرقي، إلى الالتزام بوقف إطلاق النار، وبالعمل على إعادة إحياء المنظمات العامة السورية ومنظمات الخدمة المدنية شمالي سوريا، على أن تتّبع المدارس في تلك المناطق المناهج السورية. وبحسب المبادرة، فإن الحوافز تتضمّن أيضاً تطبيق تخفيف تدريجي للعقوبات على سوريا، بدءاً بتسهيل تجارة السلع عبر أطراف ثالثة، ورفع العقوبات عن المرافق العامة السورية بما فيها المصرف المركزي والهيئات الحكومية والمسؤولين. ‎
‎تنطلق المبادرة الأردنية من 5 مبادئ رئيسية، وتحدّد 3 مستويات للتسوية الشاملة للأزمة، خلال 3 مديات زمنية، من دون تحديد تواريخ أو مهل


شكل إنساني وجوهر سياسي
تعتمد «المبادرة الأردنية»، في العمق، على خطة «خطوة مقابل خطوة»، والتي هي في جوهرها مبادرة سياسية، ولكن بشكل إنساني، إذ تستند إلى أسُس القرار الدولي 2254، والتي تنصّ على آلية حكم انتقالية عبر تشكيل حكومة بصلاحيات محددة. ومن هنا، من المفترض أن تثمر اجتماعات «اللجنة الدستورية» تعديلات دستورية تخفّض صلاحيات رئاسة الجمهورية، وتمنحها لرئاسة الوزراء، بما يعني «لبْننة» الحالة السورية، ومنح أدوار للطوائف المختلفة.
‎أمّا على المستوى الأمني، فتنص «خطوة مقابل خطوة» على إلغاء التجنيد الإجباري أو تجميده لفترة محدّدة، وإعادة هيكلة القوات المسلحة، والبحث في مصير «الفرقة الرابعة» من الجيش السوري، وفي مرحلة لاحقة، إعداد مشروع لدمج المعارضة المسلّحة بالقوات النظامية، وفتح النقاش حول التعيينات في المناصب العسكرية العليا. وفي المرحلة الأخيرة، يجري إخراج القوات الإيرانية و«حزب الله» وحلفائهما، من سوريا. ‎
وفي ما يتعلق بالملف الإنساني، تدعو المبادرة إلى إنجاز «عفو عام»، وتحسين ظروف الاعتقال وإدارة السجون. كما تشدّد على أهمية إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، لما لها من انعكاس على المستوى الإنساني. ‎

المطلوب: ورقة عمل سوريّة ‎
تمثّل أوّل تحرّك دبلوماسي جدّي، في سياق التقارب العربي - السوري، بعد لقاء عمّان وقمة دمشق، في زيارة وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، لدمشق، في 3 تمّوز الفائت. ففي الاجتماع الذي عقده الصفدي مع الرئيس بشار الأسد ووزير خارجيته ومسؤولين آخرين، طرح الوزير الأردني قضايا متعلّقة بالنازحين وتهريب «الكبتاغون»، والضغوطات الدولية لإجراء «إصلاحات» سياسية. وبحسب معلومات حصلت عليها «الأخبار»، فإن الصفدي شدّد على ضرورة أن «تبادر سوريا إلى تسهيل عودة بعض النازحين، ولو بأعداد قليلة، كإشارة حُسن نيّة»، ليجيب الأسد بأن «النازحين هم مواطنون سوريون، والطبيعي هو أن يعودوا جميعاً إلى وطنهم، لكن البنية التحتية الحالية الضرورية للسكن والطبابة والتعليم والعمل غير متوفّرة، والمجتمع الدولي يرفض أي مساعدة لإعادة بنائها». عقب ذلك، عاد الصفدي وكرّر طلبه، مقترحاً أن تُنظّم عودة «ألف نازح سوري من الأردن خلال فترة قصيرة، على أن تكون تلك تجربة أوّلية يمكن أن يُبنى عليها في مرحلة لاحقة»، فوافق الرئيس السوري على هذا المقترح، ووعد بتنفيذه. ‎كذلك تطرّق الوزير الأردني إلى الضغوطات الدولية، وتحديداً من «الأمم المتحدة» و«الاتحاد الأوروبي» والولايات المتحدة، وقال إن بلاده تتصدّى لها، مضيفاً أنه «يُسمِع كلاماً قاسياً أحياناً لجهة مبدأ السيادة، وعدم التدخّل في الشؤون الوطنية الداخلية، مدافعاً بذلك عن الموقف السوري»، على حد زعمه. لكنّ الصفدي عاد وأكّد أنه «من الصعب، وأحياناً من المستحيل، الدفاع عن بعض الأمور»، طالباً من الأسد أن يدافع عن وجهة نظر بلاده «عبر اتخاذ بعض الإجراءات القانونية والعملية المطلوبة»، هامساً بين الحاضرين: «ساعدونا لنساعدكم».
‎ونبّه وزير الخارجية الأردني إلى أن «إعلان عمّان» ما زال بمجمله «حبراً على ورق»، ولم يرَ لا المجتمع العربي ولا الدولي أيّ خطوات ملموسة بعده، طالباً من الأسد إعداد ورقة تحتوي برنامجاً زمنياً واضحاً لإجراءات ستّتخذها الحكومة السورية تطبيقاً لمقرّرات عمّان، «لتُعرض في اجتماع اللجنة الخماسية الذي (كان) سيُعقد في القاهرة في 16 آب». وقال الصفدي إنه «لا تزال أمام السلطات السورية بضعة أسابيع قبل اجتماع القاهرة، ويجب أن تستفيد منها لتعدّ الورقة المطلوبة»، مضيفاً أن «اللقاء الخماسي سيكون مفصلياً لتبرهن سوريا على جدّيتها».

اجتماع القاهرة: أين الورقة؟
‎بعد شهر ونصف شهر من زيارة الصفدي، انعقد في القاهرة، في 16 آب الماضي، الاجتماع الأول لـ«اللجنة الخماسية» المكوّنة من وزراء خارجية الأردن، والسعودية، والعراق، ولبنان، ومصر، بالإضافة إلى الأمين العام للجامعة، والتي أُعلن عن تشكيلها في قمة جدّة، ومهمّتها «متابعة تنفيذ بيان عمّان، والاستمرار في الحوار المباشر مع الحكومة السورية». خلال الاجتماع، وكما كان متوقّعاً، طالب المجتمعون وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، بـ«ورقة تحمل برنامج عمل يتوافق مع المبادرة الأردنية وإعلان عمّان»، والهدف من ذلك، «إظهار اللجنة الخماسية كلجنة فاعلة، تحدّد برنامج عمل وتسير وفقه، وتُرضي الغرب وبعض الدول العربية، وتُظهر الحكومة السورية في موقع المتجاوب». ‎لكن بحسب مصادر «الأخبار»، فإن المقداد «لم يبدِ تجاوباً، بل طالب وزراء الخارجية الحاضرين بأن يطالبوا الغرب برفع الحصار عن سوريا، بدل أن يطالبوا سوريا بتقديم تنازلات تُرضي الغرب». وهنا احتدّ الجدال بين وزير الخارجية المصري، ونظيره السوري، ما دفع الوزير الأردني إلى لعب دور «الإطفائي»، بمساعدة من نظيره السعودي.
وبحسب المعلومات، فقد أكّد المقداد، أن «استثناءات «قيصر» شارفت على الانتهاء، ومن بعدها ستكون هنالك موجة شديدة من العقوبات، وتشديد الحصار، وتحريك الشارع السوري مجدّداً»، ليتقرّر، في ختام الاجتماع، التنسيق مع الأمم المتحدة والأطراف الأخرى، من أجل عقد اجتماع لـ«اللجنة الدستورية» في سلطنة عمان قبل نهاية هذا العام، بعد توقّف اجتماعاتها منذ منتصف عام 2022. ‎
على هذا النحو، انتهى آخر الاجتماعات في سياق التقارب العربي - السوري، وهو ما بدا انعكاسه واضحاً في البرود الذي عاد يلفّ العلاقات السورية - العربية، وعدم جني سوريا أيّ «فوائد» من عودتها إلى الجامعة، وانخراطها في مسار تفاوضي يبدو طويلاً ومعقّداً. كذلك، يظهر جلياً أن ثمة من العرب من هو غير قادر بعد على الاعتراف بأن الحكومة السورية وحلفاءها قد حسموا المعركة العسكرية، لصالحهم، ومنعوا إحداث تغييرات جوهرية في شكل الحكم. وعلى هذا الأساس، وبما أن الأسد باقٍ على رأس الجمهورية، فإن البحث لدى هؤلاء هو عن سبيل واحد فقط: كيف يُجوَّف انتصار سوريا؟ ‎