كثُر الحديث في الأشهر الأخيرة حول نوايا أميركية، لإحداث تغيير جوهري في الخارطة العسكرية للمنطقة الحدودية بين سوريا والعراق. لم يأتِ هذا الحديث الذي وصل إلى حدود التكهّن باقتراب موعد عملية عسكرية أميركية كبيرة في سوريا، من فراغ، بل تعود جذوره إلى الأحداث التي اندلعت في شهر آذار من العام الحالي، بدءاً من تعرّض قاعدة أميركية عسكرية في شرق سوريا لهجوم صاروخي أدّى إلى مقتل جندي أميركي، وإصابة آخرين. في اليوم التالي لذلك، شنّت طائرات حربية أميركية، أقلعت من قاعدة العديد في قطر، نحو 20 ضربة صاروخية على مواقع عسكرية تتبع للقوات الإيرانية، ردّت عليها الأخيرة باستهداف القواعد الأميركية بثماني مسيّرات من طراز «قاصف 1»، في ما بدا أنه «جولة قتالية» أشعلت الضوء الأحمر في واشنطن، وأنذرت بما يمكن أن يكون قراراً لدى الحلفاء الإيرانيين والروس والسوريين، بزيادة الضغوط على الأميركيين. وممّا عزّز المخاوف الأميركية، ما كشفته تقارير سرّية صادرة عن «البنتاغون»، جرى تسريبها، حول برامج تدريبية عسكرية تديرها قوات إيرانية في منطقة حلب، لتدريب مجموعات سورية على زراعة وتوجيه العبوات المتفجّرة المضادّة للمدرّعات، فضلاً عن رصد تجريب العبوات ضدّ آليات عسكرية أميركية، كالتي تستخدمها القوات الأميركية في شرق الفرات.بالتوازي مع ما تَقدّم، ازدادت بشكل لافت حوادث الاحتكاك العسكري بين القوات الأميركية والروسية في شرق سوريا، حيث نفّذت الطائرات الروسية الحربية عدّة مناورات «عدائية» ضدّ طائرات أميركية مُسيّرة، حلّقت في أجواء غربي الفرات. كما نظّمت القوات الجوية الروسية والسورية مناورة مشتركة في الأجواء السورية، ومنها أجواء ريف حلب والرقة ودير الزور والبوكمال، وهي مناطق التماس مع القوات الأميركية وحلفائها. وأخيراً، أعلنت القوات الأميركية عدم تمكّنها من اعتراض طائرة استطلاع روسية، حلّقت ذهاباً وإياباً فوق قاعدة التنف الأميركية في جنوب شرق سوريا.

الأسباب والدوافع
تقف عدّة أسباب وراء ارتفاع حدّة التوتر في سوريا، خصوصاً بين الإيرانيين والروس من جهة، والأميركيين من جهة أخرى. وعلى رغم وجود اختلافات بين دوافع الروس ودوافع الإيرانيين، إلا أن التقدير لدى الطرفين، كان واحداً، وخلاصته أن الحضور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط آخذ في التراجع، لأسباب معلومة، وسيخلّف فراغاً لا بد من ملئه. لكن، في سوريا بشكل خاص، لم يجر رصد مؤشّرات جدّية حول تراجع هذا الحضور. ولذا، بدا للطرفين، وكذلك للقيادة السورية، أن الفرصة مؤاتية لممارسة ضغوط ميدانية على الأميركيين، تدفعهم إلى التفكير في سحب قواتهم من سوريا، أو تقليص حضورها. وكانت «التوافقات» التي خرجت بها لقاءات «أستانا»، بين طهران وموسكو وأنقرة، واجتماعات تطبيع العلاقات السورية - التركية، حول ضرورة خروج القوات الأميركية من سوريا، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية في مواجهة أي مشاريع انفصالية، كالحالة الكردية في شرق الفرات، قد منحت اندفاعة لـ«مشروع» الضغط على الأميركيين في الميدان، وكذلك في السياسة.
وجد الأميركيون أنفسهم أمام تحدّي الحفاظ على النفوذ


وعلى رغم وجود أسباب سورية موضوعية أصيلة، تدفع دمشق وحلفاءها إلى العمل على طرد الأميركيين من سوريا، إلا أن للعوامل الخارجية حصّتها الكبرى من تشكّل المشهد الجديد. ولعل أبرز تلك العوامل، تطورات الحرب الأوكرانية، والانخراط الأميركي الواضح والمتزايد فيها، حيث بات الطرفان، الروسي والأميركي، يريان في أي ساحة يتواجدان فيها، أو حلفاؤهما، ساحة للتنافس على توسيع نفوذ أحدهما على حساب الآخر. وفي الحالة السورية بشكل خاص، وجد الروس أن التوقيت مناسب لممارسة الضغوط على الأميركيين، وإحداث نوع من التوازن بين الميدانين الأوكراني والروسي. وهذا السياق، أكّده مساعد مدير «وكالة الاستخبارات المركزية الأميركيّة» سابقاً، بول بيلار، الذي اعتبر أن «الاستفزازات الروسيّة للقوات الأميركية في سوريا على صلةٍ بالحرب الروسية على أوكرانيا، إذ يحاول الرئيس الروسي إضعافَ الموقف الأميركي في أيّ تفاوضٍ بشأن أوكرانيا»، مشيراً إلى أن «طهران وموسكو تعملان معاً لإخراج القوات الأميركية من سوريا».

حراك رَدعي
أمام ما سبق، وجد الأميركيون أنفسهم أمام تحدّي الحفاظ على النفوذ، وعرقلة أي مسار قد يُفضي إلى حلول وانفراجات للأزمة السورية، وذلك لعدم تقديم أي إنجاز للروس. وهذا التوجّه الأميركي نفسه، هو الذي يدفع إلى تشديد الحصار على سوريا، وعرقلة أي مسار تقارب سوري - عربي. كذلك على الصعيد الميداني، وجدت القوات الأميركية نفسها في موقع المتعرّض للهجمات والاستفزازات، طوال الأشهر الماضية، ما دفعها إلى تدشين حملة لـ«تعزيز الردع» أمام أعدائها المتوثّبين. وتتوزّع المواقع العسكرية الأميركية في سوريا، على 17 قاعدة عسكرية، و13 موقعاً صغيراً، تنتشر في مناطق شمال وجنوب شرق البلاد. وتحتضن محافظة الحسكة وحدها، 17 موقعاً، ومحافظة دير الزور 9 مواقع، فيما ثمّة موقع واحد في كل من محافظات الرقة وحمص وريف دمشق وحلب. ويدرك الأميركيون أنهم بهذا الحضور العسكري القليل، لن يتمكّنوا من مواجهة تهديد عسكري جدّي، في حال قرّر أعداؤهم شنّ هجمات متنوّعة ومتزامنة ضد قواتهم في مختلف مواقعها. وتكمن نقاط الضعف الأميركية، في قلّة العدد، واقتصار العتاد على السلاح التقليدي والقصير المدى، وتفرّق الحلفاء، والفصل الجغرافي بينهم، وأيضاً تباعد المسافات بين القواعد الأميركية، وصعوبة تأمين الطرقات الواصلة بينها. وبناءً على ما تَقدم، كان من أبرز معالم «تعزيز الردع»، إرسال تعزيزات عسكرية، احتوت على منظومة «هيمارس» للصواريخ الموجّهة، ومنظومات للدفاع الجوي والحرب الإلكترونية. كما عملت واشنطن، من دون أن تنجح حتى الآن، على تعزيز التواصل والتعاون بين حلفائها المحلّيين في سوريا، مثل «جيش سوريا الحرة» المنتشر قرب قاعدة التنف، و«قسد» المنتشرة شرق الفرات.
ويجمع المراقبون العسكريون على أن الحراك العسكري الأميركي الأخير في سوريا والعراق، ليس سوى حراك ردعي، لا يحمل علامات هجومية. وهو ما تؤكّده مصادر عسكرية سورية، في حديث مع «الأخبار»، قائلةً إنه «لا مؤشرات حول نوايا هجومية لدى الأميركيين، بل إن إجراءاتهم دفاعية». وتضيف هذه المصادر أن «لا إمكانية عملياتية لدى الأميركيين لربط شرق الفرات في الشمال الشرقي، مع التنف في الجنوب الشرقي، حيث تفصل بينهما نحو 150 كم، كلها تقع تحت سيطرة الجيش السوري وحلفائه، وينتشر فيها آلاف المقاتلين». وترى المصادر أن «أي تحرّك عسكري أميركي من هذا النوع، سيشعل بالتأكيد معركة كبرى، حيث لن يكون أمام سوريا وحلفائها من خيار سوى خوض مواجهة كاملة، قد يبدأها الأميركيون، لكن تطور مسارها ونهايتها ليسا بيدهم بالتأكيد».