«ومن نكون نحن في هذه الدنيا شديدة الاعوجاج، إلّا كحرف الألف؟ وماذا تملك الألف في الأصل؟ هباءً منثوراً»جلال الدين الرومي

عندما سئل إرنستو ساباتو: «كيف تودّ أن تموت؟»، أجاب: «واعياً لذاتي، لا حُقن ولا عمليات فظيعة، كما أنا، وليس ككومة قمامة مغفَلة مخدَّرة». نسي أن يضيف ربّما: وليس أيضاً مطموراً تحت جبل من الركام، أو عالقاً وسط نيران تأكل أوصالي، أو ناشباً بدوّامة مياه تقذف بي إلى حتفي، أو ممسوكاً من تلابيبي بسحابة غاز خانق تكتم أنفاسي، أو، أو، أو... والقائمة تكاد لا تنتهي. هي إذاً لعبة نتحايل بها على الموت، مرتِّبين أسبابه من الأقلّ قسوة إلى الأشدّ، متمنّين أن يكون نصيبنا من تلك الأقلّ، مُوارين بذلك خشيتنا منه في مطلق الأحوال، نحن الذين نستحمق أمامه أنّى بلغناه، طالبين منه في كلّ مرّة أن يعيد تعريف نفسه، وكأنّنا لم نكن نركض نحوه.
على أن مِيتة عن ميتة تَفرق بالفعل. تدلّ على هذا، مثلاً، حساسياتنا المتفاوتة إزاء حالات الموت وهيئاته، على رغم أنّ «من النادر - في الحالات كلّها - أن يُسلّم المرء بألم غيره»، وفق ما يحاجج به إيفان كارامازوف (في «الإخوة كارامازوف»). لكن تلك الندرة، إذا ما صحّت، يبدو محتوماً انطباقها على الحالة الملخَّصة بأن «الموت أنْ ترى الموت» (محمود درويش)، وهو ما جرى بالفعل لكثيرين منّا لحظة الفاجعة التي ألمّت بجيراننا في شرق المتوسّط، والتي لا يزال شعور بالمرارة يجتاحنا إزاءها، ولا تفتأ غصّة تستحكم بأفئدتنا بفِعلها، فيما يَمضي ألم مُضنٍ في إحكام قبضته على صدورنا مذّاها. ذلك أنّنا نحن، الواقعون على مسافة معتدلة من مركز الهلاك، قاربنا المصير نفسه من دون أن نلتحم به، بعدما اكتفى «الزلزال العظيم» برمينا بشرارات لم تكن كافية لإبادتنا، وإنْ فعلت، على ضآلتها قياساً إلى الهول الذي حلّ بالسوريين والأتراك قليلي الحظّ، فِعلها الكبير في نفوسنا.
حتى لو تدرّبْتَ على ألّا ترتاد دروب الحياة غافلاً مختالاً فرحاً، مقنعاً ذاتك بأنّنا «كلّنا نسير تحت خيمة الله» كما تقول الحكمة الشعبية الروسية، وبأن ما أنت فيه مجرّد وهم أو منام طويل لا تستدعي حتميّة الاستيقاظ منه يوماً ما كلّ هذه الرهبة، لكن اللحظة التي تقع فيها الواقعة تظلّ دائماً مشوَّشة وعصيّة على الفهم وصعبة الابتلاع، فكيف إذا كانت لحظة زائفة تشابه الحِمام ولا تُطابقه، وإنْ بدت أقرب إلى «بروفة» حيّة لقول الإمام علي بن أبي طالب: «الناس نِيام فإذا ماتوا انتبهوا». ذلك تماماً هو ما عايشناه فجر السادس من شباط، عندما اهتزّت بنا أسِرّتنا كأرض سكنها الجنّ، وانتفضت أفئدتنا كطواويس بيضاء تُساق إلى الذبح، وارتجفت أشياؤنا كأغصان رنْد تجمّعت أرواحها غرغرة في الحلوق.
عنذاك، طاشت ألبابنا، ولم نقوَ سوى على أن نتكوّم فوق بعضنا البعض، مستحضِرين كلّ ما رسخ في قلوبنا من آيات وأدعية ورُقيات. «إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد»؛ يأتي الصوت من أعماقنا محاوِلاً تسكيننا، قبل أن تُعاود بيوتنا الرقص كأفاعٍ مسّها الجنون، دافعةً إيّانا إلى الهيَمان على وجوهنا مثل المخبولين. هل يحقّ لنا ذلك؟ ولمَ لا؟ ألسنا «هذا الخليط من الدماء والعظام والدماغ واللحم والمُخاط والمنيّ والعرق والدموع والبراز»؟ ألسنا «هذا الجسد المحكوم بالحسد والكراهية والكذب والخوف والألم والجوع والعطش والمرض والشيخوخة والموت»؟، كما يصفنا نيكوس كازانتزاكيس.
ربّما نعم، غير أن المرء ليخجل من نفسه حقاً وهو يعاين لاحقاً فظاعة ما أصاب الآخرين من أرداء ونكبات. فظاعةٌ تستحضر إلى رأسه جَمّة أسئلة وتهويمات ووساوس، تبدأ من «هندسة الألم» في هذا الكون، ولا تنتهي بموعد اختتام هذه «المهزلة الإنسانية» التي ملأت قلوبنا أحزاناً عميقة وحفرت في أرواحنا ثقوباً لا قرار لها. إلّا أن صوت النَفري ينطّ سريعاً إلى الذهن منبّهاً: إنها «نفسك تبتغي العلم لتنفصل به عن عزيمتي، ولِتجري بهواها في طرقاته، إن العلم ذو طرقات، وإن الطرقات ذوات فِجاج، وإن الفِجاج ذوات مخارج ومَحاج، وإن المَحاج ذوات اختلاف». لكن يا مولانا، كيف نمنع عقولنا من الدوران؟ كيف نستطيع نفيها أو صرفها؟ كيف نقدر على أن نمضي ولا نعقّب حتى «نكون منك وتكون منّا»؟ كيف لا نطلب علم قضائك ولو كان في طلبنا انفصال عن عزيمتك؟
«يا عبد، معرفتك بالبلاء بلاء، وإنكارك للبلاء بلاء... يا عبد مأواك رضاك، فانظر ماذا رضيت»، يجيب النفري، فيما يطلّ كازانتزاكيس قائلاً: «عليك أن تنجو من البساطة الفجّة للعقل الذي ينظّم ويأمل في السيطرة على الظواهر، عليك أن تنجو من رعب القلب الذي يبتغي ويأمل العثور على الجوهر»، مضيفاً: «الحياة مشكلة، فقط الموت ليس كذلك، أن تكون على قيد الحياة يعني فُكّ حزامك وابحث عن المتاعب». لكن ماذا عمّن لم تُفارقه المتاعب حتى في موته؟ ماذا عمّن لا يزال «سادة البشرية» ينفثون في صدره، بينما هو مردوم تحت التراب، «حِكمتهم» الكريهة العابرة للأزمان: «كلّ شيء لأنفسنا ولا شيء للآخرين»؟ ماذا عمّن تحوّل مصرعه إلى أداة تحاقُر سياسي لدى جميع أولئك الذين لا يفتأون يعصرون أفئدتهم في أوانٍ من الكراهية، ويُدنونها من مَراشف العالم قائلين: «هذا هو الحقد فاشربوا»؟
لن يكون للمكلومين إلّا الأمل بعالم لا يتّسع إلّا لأفراحهم، وما الذي يمنع الأمل؟ أليس عطش الأرض علامة المطر؟ أليست بلبلة الليل برهان الغاسق؟ أليس اضطراب الأيْك دليل الشمس؟ فلمَ لا تكون قلوب هؤلاء المقرورة سبيلاً إلى النجاة؟
أمّا نحن، الذين لا نزال عالقين بهذا العالم، فليس لدينا إلّا الغوص في أعماقنا، حيث «لا يوجد غير الماء، نعود إلى الماء ونبكي، نولد من الماء، ونذهب إلى الماء، وحين يجفّ ماؤنا نموت»، كما يقول المتصوّفة. هكذا نحن، الدموع سريرنا، كما «البحر سرير الأرض».