سيناريو «العدوان الثلاثي» كان معدّاً سلفاً، وعلى هذا الأساس تمّت مواجهته روسياً. منذ اللحظة الأولى لإثارة «الملف الكيميائي» بدا واضحاً عند القيادة الروسية أن الأمر يتجاوز مجرّد التشويش على الانتصارات التي تحققت عسكرياً في الميدان السوري، أو حتى الإنجازات السياسية الأكثر أهمية على المستوى الاستراتيجي، والتي عبّرت عنها القمة الثلاثية التي جمعت فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان وحسن روحاني في أنقرة. المقاربة الروسية لما حدث فجر السبت، كانت أكثر شمولية، وأكثر اتساعاً في زاوية الرؤية، التي تتجاوز سوريا، وإن كانت الأخيرة تمثل اليوم نقطة الارتكاز في المشهد العام.منذ سنوات، تنظر روسيا إلى مجمل التحركات الغربية، باعتبارها محاولة لجرّها نحو حرب باردة جديدة، تارة بـ«درع صاروخي» أو توسّع «أطلسي» في الفضاء السوفياتي السابق، وطوراً بإجراءات «شيطنة» تتفاوت عناوينها بين «المنشطات الرياضية» و«تسميم الجواسيس»... إلى آخر تلك الأساليب المستقاة من «كاتالوغات» الحرب الباردة، المفتقدة إلى التحديث، والمطعمّة ببعض مبادئ «المكارثية».
ضمن هذا السياق، كان التصعيد الغربي المتجدّد، من البوابة السورية هذه المرّة، حلقة مترابطة من مسلسل المواجهة الشاملة التي يستهدف الغربيون من خلالها عزل روسيا، سياسياً واقتصادياً، أو حتى المخاطرة بمصير البشرية، عبر جعل النيران تقترب أكثر فأكثر من برميل «الحرب العالمية الثالثة» المتفجّر. على هذا الأساس، اتسم ردّ الفعل الروسي ببرودة شديدة مقارنة بالتسخين الغربي. ينطلق ذلك، عموماً، من إدراك روسي لكلّ الأفخاخ التي توضع للدفع باتجاه ما بات يعرف بـ«الحرب الباردة 2.0»، وهو آخر ما يمكن أن تسعى إليه روسيا في الوقت الراهن، لما ينطوي عليه الأمر من مخاطرة بالمستقبل، بعد 18 عاماً على إعادة بناء ما خلّفته حقبة التسعينيات.
تذهب التوقعات باتجاه استمرار الغرب في دفع العلاقات مع موسكو نحو مزيد من التصعيد


ومع ذلك، فإنّ مقاربة التصعيد الغربي، بالنسبة إلى روسيا، لا يمكن أن يكون بالتراجع خطوة واحدة إلى الخلف، أو القبول بتكرار سيناريوهات خطيرة، على غرار قصف يوغوسلافيا في العام 1999، أو غزو العراق في العام 2003؛ أو بالانحناء أمام العاصفة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بسوريا ــــ بوابة أوراسيا في شرق المتوسط، والتوأم الوحيد لسيفاستوبول في تأمين الحضور الروسي في المياه الدافئة. على هذا الأساس، سلكت خطة الردع الروسية للعدوان الغربي خطين متوازيين: دبلوماسي وعسكري. في الجانب الدبلوماسي، اتخذت الخطة ثلاثة مسارات فرعية. الأولى، كانت في مجلس الأمن الذي استخدم فيه فاسيلي نيبنزيا كل ملكات الخطابة في تعرية الغرب ومخططاته لنزع شرعية دولية افتقد إليها «العدوان الثلاثي». الثانية تمثلت في سلسلة اتصالات على خطوط متعدّدة سعى خلالها الكرملين إلى تبريد التسخين الغربي، والوصول الى حلول سياسية لاحتواء المغامرة العسكرية. والثالثة تكثيف التواصل «التقني» مع الغربيين ــــ من خلال تركيا تحديداً ــــ عبر القنوات الخلفية لتجنّب الاحتكاك العسكري المباشر.
أمّا الشق العسكري، فبات معروفاً للكل، وقد عبّر عنه المتحدث باسم وزارة الدفاع، في إيجازه العسكري حول الضربة، حين أشار إلى أن «وسائل الدفاع الجوي ذات الانتاج السوفياتي تصدّت بنجاح لهذا الهجوم»، واعتبار فشل العدوان «دليلا على الفعالية العالية التي تمتلكها سوريا، وكذلك التدريب ذي المستوى المهني العالي للعسكريين السوريين»، ما يستدعي بطبيعة الحال إعادة بحث مسألة توريد منظومة «أس 300» إلى سوريا، في ضوء الأحداث الأخيرة.
تلاشي دخان الصواريخ الغربية التي اقتحمت المجال الجوي السوري فجر السبت، كان كافياً لكي يتحدّث الروس عن انتصار أكثر اقناعاً من ذاك الذي يدّعيه الغربيون. ولا يتعلّق الأمر هنا بتجنّب ضربة شاملة هدفها تغيير الوقائع على الأرض السورية فحسب، وإنما في التركيز على «المهزلة» الغربية، أو «الفشل الأكبر الذي كان يحلم به أشدّ المنافسين للأسلحة الأميركية»، على حدّ وصف صحيفة «فزغلياد». ولكن، بشكل عام، تبدي روسيا تحفّظاً في الإفراط بالتفاؤل إزاء مستقبل الصراع، الذي بات من الصعب معه، ردم الهوّة مع الغرب الذي يبدو أنه اختار اغلاق أبواب الحوار، لأسباب عدّة، يمكن إدراجها ضمن إطار «الأزمات» السياسية والاقتصادية، وحتى الايديولوجية التي باتت تثير قلق النُخب الحاكمة، في الولايات المتحدة وأوروبا، والتي تدفع نحو تأجيج مشاعر الكراهية تجاه روسيا، أو ما بات يعرف بـ«روسوفوفيا».
على هذا الأساس، تذهب التوقعات الروسية باتجاه استمرار الغرب في دفع العلاقات مع موسكو نحو مزيد من التصعيد، واعتبار أن ما جرى في سوريا وما سبق تلك الأحداث، وما سيليها، هو الإطار العام الذي ينبغي على روسيا مواجهته خلال المرحلة المقبلة.
وإذا كان فشل «العدوان الثلاثي» يشكّل مؤشراً على إدراك الغربيين ــــ أو على الأقل جنوناً في صفوفهم ــــ بأن خيار المواجهة العسكرية مع روسيا سيكون كارثياً، فإنّه يشي في الوقت ذاته بأن الحرب السياسية ــــ الاقتصادية ستكون الخيار البديل، الذي بدأت ملامحه تتضح بعد عمليات الطرد الجماعي للدبلوماسيين على خلفية قضية سيرغي سكريبال، وسيتأجج أكثر فأكثر اعتباراً من يوم تُعلن الولايات المتحدة فيه عن عقوبات جديدة ضد روسيا، بحسب ما بشّرت به المندوبة الاميركية نيكي هيلي أمس.
وفي مطلق الأحوال، فإنّ خيارات كهذه تبدو كابحة – إن لم يكن مفجّرة – لفرص الحل السياسي في سوريا، وهو ما عبّر عنه الرئيس فلاديمير بوتين أمس، في اتصاله الهاتفي مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، حين حذّر من أن «تكرار افعال مماثلة في انتهاك ميثاق الأمم المتحدة سيحدث من دون شك فوضى في العلاقات الدولية». يضاف إلى ما سبق أن «العدوان الثلاثي»، جاء ليعكس عدم استعداد الغربيين لإخلاء الساحة السورية، أو القبول بالتموضع خارج اللعبة، وهو ما بدا عليه الغربيون في قمة بوتين ــــ أردوغان ــــ روحاني.
ولعلّ ذلك الاقتحام المتجدد للمشهد السوري، عسكرياً (من خلال الضربات الصاروخية)، ودبلوماسياً (من خلال التقدّم بمشروع قرار أممي جديد يدمج بين الكيميائي والانساني والسياسي)، هو مؤشر آخر على أن الأزمة السورية مقبلة على تعقيدات كبيرة، من شأنها أن تقوّض كل ما سبق من جهود لتحقيق التسوية السياسية.
تلك العناصر، تجعل الصراع الدولي بين روسيا والغربيين، وفي القلب منه الحرب السورية، مقبل على مرحلة جديدة أكثر خطورة، عبّر عنها الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف بشكل بديع، حين وصف الضربة الأميركية ــــ الفرنسية ــــ البريطانية بأنها «أشبه بالتدريب قبل البدء برماية حقيقية... وهو أمر سيؤدي إلى ما لا تحُمد عقباه».