لا أعلام في بيروت. بطولتان قاريتان تُلعبان، ولا وجود لأعلام البُلدان، لا على الشُرفات، ولا على شبابيك السيارات... صخبُ «الفوفوزيلا» خافتٌ أمام أبواق العدوان، مخفيٌ بين «صفير» الكافيهات. العاصمة باهتة، خالية من زَراكِش الأطقم.
روتينٌ ممل، لا يؤشر أبداً على انتهاء مرحلة المجموعات من بطولة «يورو 2024»، ولا على مضي جولتين كاملتين من «كوبا أمريكا». حتى في العرس الكروي «الكبير»، ندُرت احتفالات المدينة. لم ترتدِ المباني أثواب العيد. لم تتزيّن بأعلامٍ عملاقة تغيظ الجار اللدود على أنغام «الموتسيكات». العاصمة نسيت كرة القدم، تماماً كما نسيت نفسها.

هو واقعٌ كئيب فرضته الأزمات على المشجعين، «أَجبرهم» على إيقاف طقوسهم المتوارثة. في زحمة الهموم، لم تعد نشوة الانتصار تؤثر بمشاعر لبَّدَها التوتر. أما لسعة الخسارة، فأصبحت أضعف الآلام. في بيروت، لا انتصارات لعشاق كرة القدم. في بيروت، الجميع خاسر.
هذه الهزائم لم تنحصر بالمشجعين، كما أنها تجاوزت الجانب المعنوي بالنسبة إلى البعض


هذه الهزائم لم تنحصر بالمشجعين، كما أنها تجاوزت الجانب المعنوي بالنسبة إلى البعض. التقشّف القسري الحاصل ضربَ أرزاقاً عرض الحائط، منها ما يخص محالّ لبيع المستلزمات الرياضية. في شارع «بلِس» مثلاً، قال بائع أحد المحلات لـ«الأخبار»: «تغيرت الدنيا كلها»، عازياً تراجع مبيعات الأعلام والأطقم ومستلزمات كرة القدم إلى عوامل مختلفة، على رأسها الحالة المادية للشعب وما يتبعها من تعبٍ نفسي. وبعيداً من تداعيات الأزمة، «حمّل» البائع وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً من سوء الحال، بقوله: «قبل التيكتوك كانت العالم تلتهي بالرياضة، هلق ما بيلعب رياضة غير اللي بيقلّوا الحكيم». ثم أضاف: «الذكرى أجمل من التيكتوك. بعد في ناس بيجوا بيشتروا من عنا من 20 سنة، بس مش دايماً بيلاقوا طلبن. البضاعة أقل من قبل عشان الدولار محلّق. الطقم كان بينباع بـ45 ألفاً، يعني 30$، مين معو 30$ هالإيام؟».

وعلى نسقٍ موازٍ، طالت المقاهي أضرار متفاوتة جراء انخفاض الاهتمام بكرة القدم. في مقهى على أطراف الضاحية الجنوبية لبيروت، أكّد متحدث أن الإقبال والمبيعات في تراجعٍ ملحوظ، لافتاً إلى أن «بطولة يورو مش متل المونديال، اليورو ما فيها البرازيل ولا ميسي. بالنسبة إلى كوبا أميركا، التوقيت بعد نص الليل مزعج للكل، العالم بالبيت أنجأ وعم تحضر». وأوضح أن عوامل أخرى تجعل «الكافيهات» نفسها غير قادرة على استضافة الحدث بالشكل المناسب، مثل ارتفاع تكلفة اشتراك البث، ما يجعل الزبون ملزماً بدفع حد أدنى من المال، يضعه أصحاب المقاهي لضمان الربح، أو على الأقل عدم الخسارة، وهذه «مقامرة بغنى عنها»، كما قال متحدث آخر في أحد كافيهات «فردان».

(هيثم الموسوي)

على صعيد المشجعين، أوضح عاشق للمنتخب الإيطالي أن مزامنة توقيت البطولتين مع الأوضاع الحاصلة في الجنوب، حالت دون مشاهدته، مختصراً موقفه بقوله: «لا الشق الإنساني بيسمح، ولا النفسية بتسمح». ثم تابع: «أصلاً بطولة اليورو فاترة، عم شوف النتايج وبكفاية». جوابٌ حاكاه نسبياً مشجعٌ آخر عندما قال: «ما في وقت، نحنا بأجواء حرب، عم تابع سياسة»، في حين عزا مشجعٌ ثالث عدم اهتمامه بمسابقات كرة القدم القارية لضيق الوقت أيضاً، لافتاً إلى مشاهدة بعض المباريات من المنزل «بشكل نادر».
إذاً هي أزمات متراكمة، أنست اللبنانيين كرة القدم، وهم الذين كانوا يزينون المباني بالأعلام العملاقة. سقى الله أيام زمان.