مات الرجل

  • 0
  • ض
  • ض

حين انطلق الباص قبل شهور عديدة من مطار هانيدا الدولي، إلى وسط العاصمة اليابانيّة طوكيو، كان الظلام قد خيّم على المدينة. في منتصف الطريق، راسلني صديق عبر تطبيق «واتس آب»، يسأل ممازحاً: «شو، كيف شفتلي اليابان»، فأجبت «لسة ما شفت منها غير أوتوستراد المزّة». لم تنبع الدعابة من فراغ، ففي الليل، وبعيداً عن التفاصيل اليوميّة، يمكن أحد «أفخم» الأوتوسترادات السوريّة أن يشبه واحداً يابانيّاً. أصلاً، الشوارع السورية «أجمل من شوارع سويسرا»، وفقاً لمسؤول سوري (يذكّرني الأمر بجملة عالقة في الذهن، من فيلم عربي قديم «مصر حلوة أوي من فوق»؛ ويبدو أن الجملة صالحة لكثير من الدول «الحلوة» أيضاً). بعد أيام يابانية عديدة، وجدت نفسي أعقد مقارنةً أخرى بين اليابان وسوريا، مقارنة شديدة الواقعيّة هذه المرّة. كنا نستمع إلى مسؤولين محليين في مدينة ريكزنتاكاتا، يتحدثون عن إعادة إعمار مدينتهم عقب التسونامي الذي اجتاحها عام 2011. كان المسؤولون يتفاخرون، ومعهم حق في ذلك، بأنّ آخر ما تمّت إعادة إعماره هو مقر البلدية. أغلب الظن، أن أي سوري يسمع هذا الكلام، سيقارنه فوراً بصورٍ لمقار «حزب البعث العربي الاشتراكي»، كانت على رأس ما «نهض» في مناطق عادت إلى سيطرة الدولة السورية، تباعاً. أما أنا، فأول ما خطر لي وقتها رئيس بلديّة إحدى بلدات ريف حلب الشرقي. حين عادت تلك البلدة إلى سيطرة الدولة السورية، أخذ رئيس بلديّتها قراراً بأنّ آخر ما سيتم التفكير فيه، هو مقرّ البلديّة. اسم البلدة مرّان، واسم الرجل محمد أحمد الخلف. أنا صديق محمّد، أجدر من عرفتهم بصفة «رجل»، مسبوقة بـ«أل التعريف». أنا صديق محمّد، الذي جاءني يشكو همّه قبل أكثر من عشر سنوات، لأنّه مضطرّ إلى مسايرة ضغوطات أهل قريته وعشيرته، والترشح لمهمة رئيس البلدية. لسنوات، عايشت هموم الرجل، وكرهه «منصبه»، واستماتته في واجباته، والمعارك الكثيرة التي خاضها مع درجات السلم الأعلى. تالياً، فرضت عليه الحرب معارك من نوع آخر. احتلّ تنظيم «داعش» المتطرّف البلدة (تبعد عن مدينة الباب كيلومترات قليلة). كان همّ الرجل وقتها ألا يتحوّل التنظيم من محتل إلى مقيم في بيئة حاضنة، وهذا ما حصل. في واحدة من المواجهات قرّر «شرعيّو داعش» عقوبة الجلد بحقّ محمد، والسبب عدم التزام سيدة من عائلته بـ«اللباس الشرعي». قال لأحد «الأمراء» وقتها: «ما إلكم علاقة شو منلبس». بعد الجلد، وتكرر التهديدات، نزح من قريته كارهاً. حين طُرد «داعش» من مرّان، كانت أسرة رئيس البلدية أولى الأسر التي عادت إليها، وأصرّت إناثها على إحياء البلدة، وهذا ما حصل. أنا صديق محمّد الخلف، كاتب القصة البديع، الذي افتتح مخطوط مجموعته (لم تُنشر) بإهدائها «إلى الفقر فقط». صديق محمد، الذي لم يطلب ــ أو يقبل ــ مساعدةً من أي نوع طوال ربع قرنٍ جمعني به. لكنه فعلها أخيراً، قبل أقل من عام. اتصل ملهوفاً وقال «عم نعمل مركز تنشيطي بالضيعة، فيو قاعات كومبيوتر، ومكتبة، وبدك تساهم معنا ماديّاً. بدنا كتب». لاحقاً، حكى لي كثيراً عن الصعوبات التي واجهها في مساعي الحصول على كتب من مستودعات «مؤسسات ثقافية حكوميّة». كان ما حصّله أقل بكثير من طموحاته، وأقل بكثير كثير ممّا يتلف في تلك المستودعات. في واحد من لقاءاتنا القليلة في السنوات الأخيرة، شكى همّه مرة أخرى. سيكون عليه أن يستمر في «منصبه»، حتى إنجاز كل الواجبات؛ ترميم المدارس، تعبيد الطرقات، الحصول على قرارات استثنائية لتمويل قروض طاقة شمسيّة، عودة التيار الكهربائي إلى القرية... إلخ. قبل أيام، مات الرجل بسكتة قلبيّة. أخبروني أنه كان في حاجة إلى إجراء عمليّة قسطرة، لكنّه كان يتهرّب من إجرائها، «لأنو مو وقتها، عندو شغل كتير».

0 تعليق

التعليقات